نتنقّل في الحياة بين مراحل كثيرة؛ منها هيّن سهل، ومنها ما تترقّبنا عقباته مع كلّ درجة إلى الأعلى أو خطوة إلى الأمام… منها الجميل السلس، ومنها المعقّد الذي ننتظر مرور غيماته السوداء انتظاراً طويلاً. لكنّ لكلّ مرحلة لذة وإن صعبت، ولها ذكرى وإن عسرت. ومن النقلات النوعية بين مرحلة ومرحلة في حياتنا: الانتقال إلى الجامعة بعد قضاء اثنتي عشرة سنة في المدرسة. فهذا انتقالٌ تتغير فيه أمور كثيرة جداً على الطالب الصغير الذي كان يحمل حقيبته صباحاً ويتجه إلى مدرسته، يقف في طابور الصباح، يدخل نفس الصف كل يوم، يجالس زملاءه، يقضي عدداً من الساعات، ثم يعود إلى بيته يطالع كتبه. هذه النقلة تحتاج في بدايتها تأقلماً ليس هيناً، ثم نظاماً سليماً لقضاء أيام الجامعة وسنواتها التي برغم طولها، قد تنقضي كلمح البصر. فيما يلي بعض النصائح البسيطة التي أعتقد أن اتباعها أو اتباع جزء منها قد يمهّد للطالب الجامعي منذ البداية (أو حتى قبل البدء) طريقاً له معالم مرسومة، يرى من خلالها وجهته بوضوح:
(١) اجتهد في اختيار تخصصك الجامعي
الاختيار ليس عملية سهلة ولا عشوائية، بل هو عملية حساسة وفاصلة، تحتاج منهجاً تتبعه حتى تصل أخيراً إلى التخصص الذي يناسبك. أمسك ورقة وقلماً، واكتب! افتح محركات البحث، واقرأ! شاهد فيديوهات كثيرة على يوتيوب، احصر خياراتك، ثم قم بما يسمّى: Shadowing؛ وهو قضاء يوم كامل مع صاحب كلّ تخصص في قائمة خياراتك، تعيش فيه التجربة فتقيّمها: مع طبيب، أو مصوّر، أو فيريائي. اطلع على الهرم الثلاثيّ لاختيار التخصص: ١) أن تكون لديك الرغبة والميول؛ ٢) أن تكون لديك القدرة فيكون التخصص متناسباً مع شخصيتك، وطريقة تفكيرك، وأسلوب دراستك؛ ٣) أن يكون لديك فرصة جيدّة للعمل بعد التخرج. ابذل ما بوسعك لتحسن الاختيار، لكن اعلم كذلك أنّ اختيار تخصص الجامعة ليس نهاية المطاف، فإن اكتشفت لاحقاً أنّ تخصصك لا يناسبك أو أنك غير راض عنه، فلا بأس! الجامعة أو الكلية مكان للبداية فقط. فإنّك قد تحمل شهادة في المحاسبة ثم تحترف التصميم الجرافيكي، أو شهادة في العلوم البيولوجية ثم تتجه إلى التسويق. التخصص الجامعي ليس سمة تتسم بها إلى الأبد إلا إذا أنت أردت ذلك، والفرص تتاح لنا كثيراً، لكن علينا أن نتقن الاستغلال والاختيار.
(٢) ادرس بذكاء
الوقت الطويل الذي تقضيه في الدراسة والحفظ والمراجعة لا يعني بالضرورة فهماً أو نتائج أفضل، بل الاستفادة من الوقت والمصادر بحكمة وحنكة هو ما يحفظ لك المعلومة بعد حين ويذكّرك بها. استخدم وسائل جديدة بالإضافة إلى الوسائل التقليدية للدراسة؛ استغلّ محرك البحث جوجل (Google)، وموسوعة ويكيبيديا (Wikipedia)، والمحاضرات المتاحة على شبكة الإنترنت لكلّ التخصصات تقريباً. اقرأ خارج الكتب والملخصات، رتب مجموعات دراسية مع أصدقائك يستعين بها كلّ منكم بصاحبه ويعينه. حاول توظيف أكثر من حاسة أثناء الدراسة، فالذاكرة تعمل بشكل عجيب جداً، والمعلومة تترابط وتتشابك من كلّ الجهات إن أنت وظفت السمع والبصر والنطق -مثلاً-؛ فأنت إن نسيت جزئية منها دكرتك الأخرى بالذي نسيته. اكتب، لخص، ارسم، ألف مختصرات (acronyms) من بدايات حروف الكلمات التي تريد حفظها ليساعدك المختصر على تذكر بقية النقاط. لا تكن دودة كتب (nerd/bookworm)، لكن ادرس بإخلاص وذكاء.
(٣) عش التجربة بكل جوارحك!
سنوات الجامعة قد تمرّ عليك فتخرج منها كما دخلت، أو قد تخرج إنساناً آخر؛ أكثر نضوجاً، وأحدّ ذكاء، وأوسع علماً، وأغنى ثقافة، وأشدّ حكمة، وأغزر صحبة. هي سنوات ذهبية عليك أن تستغل فيها كلّ ما قد يزيد في نمائك وتشعّب خياراتك وزيادة فرصك. تطوّع، سافر، طوّر مواهبك، شارك في نشاطات ومحاضرات ودورات تدريبية وورشات عمل ومؤتمرات، لكنّ بشكل موجّه. فبعد الجامعة سيزيد حملك بشكل كبير، وستخرج للمجتمع إنساناً مسؤولاً؛ ليس فقط عن نفسك، بل عن دائرة صغيرة حولك وأخرى كبيرة برسالة تحملها في قلبك وعقلك لبقية أفراد المجتمع. لا تعوّل على التعلم من الحياة والاستمتاع بها والغرق في تجاربها بعد التخرج، بل اجعل هذه السنوات القليلة مليئة بكل ما يرقى بمستواك الإنسانيّ والعلمي. عش فيها كلّ لحظة، وحاول أن تجعل كلّ يوم ممتعاً بتجارب جديدة مجنونة.
(٤) اقرأ! اغرق في الكتب….
قلتُ إنّ سنوات الجامعة هي فترة حضانة لحياة تعيشها بكل جوارحك فتخلق لك تجربة ممتدّة الأبعاد؛ لكن ماذا لو استطعت أن تعيش مئات التجارب فوق تجربتك؟ ماذا لو استطعت أن تعيش تجربة عالم ورياضيّ وفلكيّ؟ ماذا لو قطعت البحار والمحيطات والقارات؟ ماذا لو تجاوزت هذا إلى تجارب في عصر غير عصرنا وزمان غير زماننا؟ اقرأ! اغرق في الكتب…. لا تقف عند كتاب أو كتابين أو ثلاثة، بل اجعل الكتاب رفيقاً لك؛ اجعله فوق مكتبك وبجانب سريرك وفي حقيبتك. احفظه على سطح مكتب حاسوبك، وأنشئ له ملفات خاصة، وصنف كتبك إلى أدبية وفلسفية ودينية وعلمية وتاريخية وكل ما تشتهي. لا تحصر نفسك بتجربة واحدة، بل اجعل تجربتك مضاعفة أضعافاً كثيرة كي تؤتي أكلاً كثيرة.
(٥) اختر صحبتك على حذر
انتق أصدقاءك بحذر شديد، ولا تصادق إلا صاحب همّة عالية، وعزيمة قوية، وروح جميلة. اختر منهم من يتناسب تفكيره مع تفكيرك أو يفوقه، ومن يوافقك علماً وثقافة أو يتفوق عليك. لكن احذر كذلك أن تتقوقع حول مجموعة تتشابه أنت وهم في كلّ شيء، خاصة في البعد الفكري؛ بل تعرّف إلى الجميع، وأنشئ بينك وبينهم علاقة طيبة؛ اقبلهم وتقبّلهم، واجعل في نظرك بُعداً كبيراً لتفكر بالذي يفكرون فيه، فتبحث عنه وتقرأه وتفهمه وتتعلم منه. الصداقة مهمة جداً، ولا تكتمل التجربة الجميلة إلا بها، لكن عليك ألا تتنازل أبداً عن استقلال أفكارك ومبادئك، أو عن نوعية الأصدقاء المقربين الذين ستقضي معهم جلّ وقتك، فإنّ أثرهم عليك يفوق تصورك بأبعاد كثيرة ويتجاوزها.
(٦) اجعل لنفسك روتيناً يومياً
ضجيج الحياة وضوضاؤها يُتعب الفؤاد، ويشتت العقل، ويضيّع الأهداف، ويجعل الأيام تمرّ دون أن ندرك كم مضى منها وكم سيمضي. المحافظة على بعض العادات اليومية البسيطة التي تحبها وتداوم عليها ستجعل بينك وبين نفسك ألفة وسكينة، ستعرّفك إليك أكثر فتفهم نفسك، ستقيك الحروب الداخلية، والصراعات، والأفكار الهوجاء. اجعل لنفسك روتيناً يومياً تستثمر فيه جزءاً من نفسك: هواية تحبها أو مهارة تريد إتقانها أو عبادة تتقرب إلى الله بها أو رياضة تمارسها. التزم بهذا الروتين، ولو عشر دقائق في كل يوم، واختر وقتاً ضائعاً تستغلّه؛ في طريق ذهابك إلى الجامعة أو عودتك منها، عند انتظار محاضرة، أو قبل النوم، أو في ساعة الفجر. ستردّ لك هذه الفسحة اتزانك، وستعيد إليك رؤيةً أوضح ليومك ومسارك، وستجعل منك إنساناً أفضل.
(٧) لا تكن نسخة أولى ولا عاشرة ولا ألفاً…. كن الأصل!
ستتلقى أنت وكلّ زملائك في المساق المحاضرات والملخصات والامتحانات نفسها، لكنّ دماغ كلّ منكم واستقباله للمعلومات مختلف؛ كلّ منكم سيربطها بالتجارب السابقة لديه، وبالعمليات المعقدة التي تدور في دماغه الآن، وبالطموحات والأفكار المستقبلية التي يأمل أن يصل إليها. هذا الاختلاف يجب أن يؤدي إلى نتائج مستقلة، يعبّر عنها أشخاص لكلّ منهم معالمه الواضحة الخاصة به. نحن لا نحتاج إلى عقول متشابهة كقطع الليجو أو مربعات الشطرنج، نحن نحتاج إلى عقول راقية مختلفة، تتناسب مع اختلافنا الذي خلقنا الله عليه؛ فقد جعلنا جميعاً بعينين، ولسان وشفتين، ولكنّ كلاً منا له شكله الذي يميزه عن كلّ خلق الله؛ وكذلك يجب أن يكون شخصُه. اسعَ أن تكون أنتَ وحدك أنت…. لا تكن كغيرك؛ لا تكن رقماً يضاف إلى الأرقام، ولا نسخة تمرّ مع بقية النسخ عن الحياة كأنّما لم تكن فيها…. إنّ لك رسالة وحياة وانفراداً؛ كُنها جميعاً…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.