ظننت الأمر، بدايةً، مزحة رديئة أو مجرّد افتعال شائعاتٍ مُغرضة، لكنّ تتالي الأخبار تتراً لم يترك أمامي إلّا تصديق الحادثة وإدراك جَلَلِها!
أوقاتٌ مليئة بالرهبة ظللتُ فيها مشدودة الأعصاب جرّاء تضارب الأنباء العاجلة التي تظهر على الشاشة في تسارع جنونيّ، فالخبر يأتي في الأول من جهة مجموعة الجيش المُنقلبة يليه مباشرة نفي له من طرف مؤسسة الرئاسة أو الحكومة الشرعيّة التركيّة، وبينهما أضطرب!
كنتُ أطردُ السواد الآتي إليّ من الليلة الليلاء التي عِشتها حين اعتدى العسكر على أول حكومة شرعيّة أفرزتها الثورة المصريّة.. أقنِعُ نفسي بأنّ الحكاية لا تتطابق، وأنّ لكلّ حكاية تفاصيلها الخاصة ولكلّ حكاية ملامحها وإن تشابهت في بعضها، لكنّي لم أفلح في إذابة خاطر ظلّ يجوب في رأسي: ماذا إن سقطت تركيا بيد العسكر؟ حتّى تحضُرُني إجابة واحدة لا بديل عنها: علينا السلام إذن! قُضِي الأمر وسنتدحرجُ إلى أدنى سفحٍ بدون أجل يُنبئ عن قيامنا!
الأفكار التي قفزت لعقلي حينئذ كانت أولاها عن أي تجارب رائدة سنحدّث الأجيال التي نُربّي؟ أي محيط سينشأون فيه وكلّ ما حولنا قاتم؟ ثمّ، ما هو موقفنا بعدما يمدّ الانقلاب المشؤوم أذرُعَهُ؟ نتباكى أولاً ثمّ نعتلي المنابر نُحلّل ونناقش ونتبارى في لعب دور "الفِهِّيم" الذي يلعن كلّ من سبقه في الرؤية والكلام، سوف نتفنّن في تأدية دور الضحيّة.
اشمأززت لما سنكون عليه وقتها ولعنتُ العجز ألف مرّة! امتلأت حنجرتي بالغصص ولم يتدحرج دمعي كعادته فقد أقنعت نفسي أنّ البُكائيّات ملّتنا وإن لم نملّها نحن فاحترفناها بمناسبة وبغيرها!
ثمّ ذهب كُلّي للسوريين الذين لفظهم وطنهم فاحتضنتهم تركيا بدفء المحبّة وكرم الضيافة، ما هو مصيرهم إذا تغطرسَ العسكر؟.. وأهل غزّة، من يُنير شمعة في دجى حصارهم؟.. وشباب مصر الفارّ من عسكر غاشم أحرق بلاده وأحلامه، ما مصائرهم؟؟ ماذا عنهم كلّهم وعنّا إذا انطفئت شمعةُ الأمل "تركيا"؟؟!
كلّ هذه الأفكار تتدافعُ بداخلي فأدفَعُ ألمَها بمتابعة التفاصيل وإقناعي بأنّ الوقت ما زال مبكراً لأستسلِمَ لهواجسي الشجيّة، فها هو الرئيس أردوغان يُطِلّ واثقاً مؤمناً بقوّة شعبه. ولا يمرّ من الوقت إلّا اليسير جدّاً حتّى يستجيب الشعب وتفيض الشوارع بأحرار يدفعون كابوس "العسكر" بعيداً بعيداً ويرسمون هالةً من نور في ليلة ابتدأت بظُلمةٍ حالكة. ومن قبل هؤلاء الأحرار كان خروجٌ جريءٌ، على الشاشات، للنُخبة السياسيّة تُدافع عن الحريّة والديمقراطيّة كمبادئ راسخة لا تقتلِعُها رياح الاختلافات الفكرية والأيديولوجيّة. هي نُخبة كانت مثالاً لشعبها في أنّ القوّة في الاتحاد أمام كلّ ما يُهدّد تقدّم الوطن ورقيّه.
تتواصل تداعيات هذا الانقلاب حتّى اللحظة، بيد أن الأتراك لم يهنأ لهم جفن حتّى أنهوا الليلة بإذلال المنقلبين المُعتدين على حُرمة الوطن. ففد لاح الفجر بتباشير نصر الإرادة الشعبيّة التي اختارت الحريّة مُستقرّاً ووِجهةً. ما فعله الأتراك في هذه الليلة سيُخلّده التاريخ ولن تنساهُ الذاكرة حتماً.
بطولةُ الأتراك شرفٌ وهو ليس مُبرِّراً أبداً ليلعن بعضنا باقي الشعوب التي استبسل شقٌّ عريضٌ منها لكنّها لم تظفر بالانتصار على الظلمة حتّى الساعة. مثالُ ذلك الشعب المصري الذي أظهر إرادة وعزماً لم ينثنيا لشهور بل لأعوام وهو يرفض الانقلاب العسكريّ، لكنّ واقِعَ مصر مثخن بالفقر المُدقع والتجهيل والبطالة والبؤس.. فأنّى لمُعطيات مختلفة أن تُؤدّي لذات النتيجة؟!
وحناجِرٌ حُرّة في بلادٍ كثيرة لم تجفّ وهي تلعنُ الظلم وتنتصِرُ للحقّ، لكنّ طريقها ما زال طويلاً! فلم الاستهزاء منها ولعنها والنيل من شرفها فقط لأنّها تُحاوِل ولم تُفلِح في تحقيق ما حقّقه الأتراك في ليلة واحدة. ولِنعلم أنّ واقع تركيا اليوم من اقتصاد وتعليم وتنمية مزدهرة جميعها، هو وليد طريق طويل من العمل والتعب.. إذا كان من حقّنا أن نلعن أحداً فهو النُخبة التي استأمنها شعبها على البلاد بتفويضها فظلّت عالقة في أحقادها تارة وفي مرض الخيانة تارة أخرى فلم ترفع يداً حتّى اليوم للبناء أو حتّى أبطنت نيّة للإصلاح..
لعنَةُ الله على الكاذبين المُفسدين، وسلام على الصادقين المُصلحين!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.