حتى كتابة هذه السطور لا أدلة تثبت تورّط أيٍّ من الدول الكبرى في المحاولة الانقلابية التي حصلت في تركيا يوم الجمعة 15 يوليو/تموز 2016.
الولايات المتحدة عبر وزير خارجيتها دعت إلى احترام المؤسسات الشرعية الساعة الواحدة والنصف فجراً، حسب التوقيت المحلي لمدينة الرياض، أي قبل أن يذاع خبر فشل الانقلاب. الاتحاد الأوروبي ندد بالانقلاب، وكذلك فعلت عدة دول بينها السعودية وروسيا بطريقة مختلفة، وهي التي دعت بضرورة استتباب الأمن في تركيا.
بقي أن الرئيس أردوغان اتهم المفكر الإسلامي فتح الله غولن، المنفى إلى الولايات المتحدة، بالتورّط في هذا الانقلاب. ويبدو أن الرئيس استند إلى أسماء الضباط الذين أداروا الانقلاب كدليل، ولهم علاقات بغولن.
تاريخياً، في أوج الحرب الباردة بدأت المؤسسة العسكرية التركية في اعتبار الشيوعية وليس الإسلام الخطر الأكبر، ومع الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979 بدأ حلف الناتو في التسامح مع "الإسلام السياسي"، بل واستخدمه أداة ضد الشيوعية. ساعد انقلاب 1980 على التقريب بين الجماعات المحافظة الإسلامية والمؤسسة العسكرية، فقد استهدف قادة الانقلاب هذه المرة الجماعات اليسارية والكردية، وحاولوا استخدام توليفة إسلامية تركية أليفة كجرعة مضادة للخطر الشيوعي المزعوم في تركيا.
أدرك العسكر خلال الحرب الباردة إمكانية أن يؤدي الإسلام دوراً لتماسك المجتمع ليتغلب على الانقسامات العرقية المتزايدة داخل المجتمع التركي التي تمثلها الحركة الانفصالية الكردية، وهكذا أعيد تقديم الإسلام من خلال التعليم العام ليطبع جيلاً جديداً على الولاء للدولة وعلى الاعتزاز بكونهم أتراكاً مسلمين.
لم يكن من باب المصادفة أن كان لجماعة غولن في بداية الثمانينيات اتجاه شديد الإيجابية نحو المؤسسة العسكرية، حتى أن غولن نفسه اتخذ منها نموذجاً لتنظيم جماعته، بل طالب أتباعه بقدر من الانضباط يشبه الالتزام بالواجب العسكري.
لم تكن هذه النظرة المقدرة لتزول إلا في العقد الأخير بسبب تجدد الاضطهاد العسكري الكمالي الذي دفع غولن الى انتقاد علني للمهمة التي منحها العسكر لأنفسهم وهي حراسة أيديولوجيا معينة وليس الدفاع عن الوطن. الانقلاب الناعم عام 1997 لم يقف عند الإطاحة بالحكومة الائتلافية بزعامة حزب الرفاه، بل شمل عملية تسمح لمؤسسات الدولة، لاسيما العسكرية والبيروقراطية، بمراقبة كافة الأنشطة الإسلامية وتجريمها وتوصيفها بأنها خطر على الأمن.
وضعت المؤسسة العسكرية في التسعينيات نظام مراقبة معقداً لمنع المتعاطفين مع غولن من الالتحاق بها، وكان من بين طرق تحديد الانتماء للحركة التحري عن ما إذا كان الشخص قد قرأ كتب غولن أو استمع الى خطبه أو اشترك في إحدى مطبوعاته، وقد كانت هنالك عملية تتبع صارمة من المؤسسة العسكرية وغيرها من مؤسسات الدولة الهامة لاستبعاد المتعاطفين مع غولن. فإذا ظهر أي ضابط عسكري يتعاطف مع أنشطة الحركات الإصلاحية الإسلامية التركية يبدأ تحقيق داخلي عسكري يشمل جانباً نفسياً وفي بعض الحالات تعذيباً بدنياً.
هذه المراجعة التاريخية السريعة بإمكانية وجود ضباط "غولونيين" أو التقاء مصالح بين "قوميين" وغولن، والمقدمة بذكر ردود أفعال الدول تعطي الكثير من الوقائع التي تساعد على تحليل سريع لما جرى في تركيا.
إذ يبدو أن إحباط المحاولة ومشهد الشعب الأعزل الذي يحاول صد الدبابات بأجساده وسحب الأسلحة من عناصر الجيش الانقلابيين يدل على ضعف الحركة الانقلابية، فلا دولة إقليمية أو دولية دعمت الانقلاب ولا تريد التورّط في محاولة انقلابية عسكرية على مؤسسات شرعية، والكلام عن تمرد قليل من الجيش ليشكلوا حالة الانقلاب، دليل ضعف تخطيط وسوء تدبير ومكر.
الولايات المتحدة لا تريد عدم الاستقرار لتركيا؛ لأن في سلم أولوياتها محاربة الإرهاب، وتُعد تركيا، برئاسة أردوغان، داعمة لحربها. لذلك أستبعد أن تكون الولايات المتحدة داعمة لانقلاب في تركيا ضد حزب له شعبية هائلة.
أوروبا لا تستطيع دعم انقلاب عسكري ضد الشرعية وهي التي تحاضر ليلاً ونهاراً لضرورة احترام تركيا لمعايير كوبنهاغن (ديمقراطية – تداول سلطة – حرية…الخ) كشرط لدخول الاتحاد الأوروبي.
الانقلابات العسكرية في تركيا تاريخياً كانت إما لعدم حصول حزب ما على أغلبية تتيح له تشكيل حكومة منفرداً ولعدم الوصول إلى حكومة شراكة بين الأحزاب، وهذا لم يحصل اليوم، أو كما حصل عام 1980 بعد أزمة اليونان وقبرص ليقوم العسكر بالتصالح مع الولايات المتحدة وليدعم أسس تركيا على النمط الأتاتوركي.
إعادة برمجة السياسة الخارجية لأردوغان بـ"تصفير المشاكل" مع دول الجوار، خاصة مع روسيا وإيران وإسرائيل، ترجح عدم مشاركة تلك الدول في محاولة الانقلاب.
"القومية الأتاتوركية" تريد عزل تركيا عن الجوار: لعدم دخول الاتحاد الأوروبي، ولإغلاق الحدود مع سوريا وطرد اللاجئيين السوريين. خطوة أردوغان بمنح الجنسية لمئات الآلاف من السوريين تعطي ذريعة لـ"الأتاتوركيين" للإطاحة بسلطته وتحقيق الانقلاب. تبرؤ الحزب القومي من هذه المحاولة لا يبرئ جنرالات لهم توجّه قومي وبدعم من فتح الله غولن الذي يحمل ثأراً لأردوغان بمحاولة الانقلاب.
انعكاسات المحاولة الفاشلة تتلخص في النقاط التالية:
أوروبياً: لا تزال تركيا تُعد من الدول غير المتماسكة مؤسساتياً، ومحاولات الانقلابات العسكرية واردة لتطيح بالشرعية والعملية الديمقراطية وهي من أهم أسس معايير كوبنهاغن لدخول النادي الأوروبي. وبانتظار ردة فعل السلطات التركية، هل ستعلق المشانق للانقلابيين فتهدد بممارساتها إمكانية دخولها الاتحاد الأوروبي؟ هل ستعلن حالة الطوارئ وتقوم الحكومة بإجراءات تضييق على الحريات والصحافة؟
شرق أوسطياً: أتت محاولة الانقلاب بعد إعادة برمجة علاقات تركيا الخارجية بدول الجوار، ولا نستثني سوريا. هل سيبقى أردوغان على خطة "تصفير المشاكل"، أم سيغير من استراتيجيته؟ عدم وجود أدلة على تورّط دول الجوار يجعل أردوغان ثابتاً على مبادئه.
أميركياً: يبدو أن وجود فتح الله غولن داخل الولايات المتحدة سيربك العلاقات بين الدولتين، ولكن سُلّم الأولويات بضرورة محاربة "الإرهاب" يجعلهما يتفاديان الصدام الدبلوماسي.
داخلياً: المحاولة الفاشلة ستقوّي أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ومواقف القوى المعارضة بالتنديد بالانقلاب يعزز من الشعور الوطني والتمسك بالهوية القومية واحترام المؤسسات والشرعية. وفي المقابل ستضعف تيار غولن، رغم تبرؤه من المحاولة الانقلابية، لأن الإعلام "الأردوغاني" سينتهزها فرصة للقضاء عليه، وسينضوي قسم من أنصاره تحت حزب العدالة والتنمية، وهذا ما سنلاحظه في أي استحقاق انتخابي قريب.
تركيا نجت من عودة العسكر، لكنها تظل مهددة بأي هزة أمنية مقبلة، فالتركيبة التركية ومزيج الثقافات والحضارات والإثنيات والقوميات، تجعلها على شفا جرف هارٍ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.