غريب هو عالم البشر، فهم على اختلافهم، فمردهم إلى أصل واحد، ولذا حين يتعامل الناس مع الطواغيت، نجد أن استجاباتهم للطواغيت تتشابه، وحتى انتفاضاتهم، على افتراض أنهم قد ينتفضوا، تتشابه أيضاً.
إن البشر -وبالخصوص بشريو العالم الثالث- محشورون في الثنائية القائلة، بأن الحياة أوامر وتنفيذ، بأن الناس تابعون ومتبوعون، ضعفاء ومستكبرون، لا إعمال للعقل في هذا التنفيذ، لا شورى ولا ما يحزنون، كل ما يفعله الرئيس صحيح، الرئيس لا يمكنه أن يخطئ، ألم يؤكد سدنة الدين ذلك، ألم يستميتوا دفاعا عن أنه فوق البشر بمراحل عدة.
الإسلام لما جاء، أراد فيما أراده، هدم تلك الثنائية (ثنائية الأمر وتنفيذ الأمر دون نقاش)، فباتت الشورى إحدى أهم دعائم إقامة الدولة الإسلامية، ورغم أن القوم لم يكونوا يحتاجون لهذه الشورى في شيء، فبينهم نبي، يمكنه أن يطلب الوحي من السماء، فينزل عليه آمراً، وهم ينفذون فقط على الفور، لكن الله أراد من المؤمنين أن يعملوا عقولهم ويساهموا بمقترحاتهم ويدلوا بدلوهم، ويستقروا على ما اجتمعوا عليه.
ولما ذابت قيمة الشورى مع توريث الحكم، بعد خلافة بني أمية للخلفاء الراشدين، حتى استمات الدعاة والفقهاء، في تغليظ فقه السلطان، وتغليب أمره، ووضع السلطان في مكانة لا تليق إلا بآلهة، ناسين قول الله عز وجل في آية واضحة المعنى، قوية الدلالة، تضع اللذين أصابهم البغي في منزلة عظيمة، فقال الله "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".
كما كان تأكيد القرآن في آيات عدة للمؤمنين أن النبي إنما هو بشر يوحى إليه من عند الله، كان للتأكيد القاطع أن الله لا يرضى لعباده أن يلبسوا عبادا آخرين لباس الألوهية والتنزيه عن الخطأ، ولو كانوا رسلاً من عنده، وهنا نجد غياب هذا المنهج بل وتوريث الناس أبناءهم الذل والانبطاح للسلطان، والإسلام إنما جاء لتخليص العباد من عبادة العباد، وتحريرهم من كل قيد قد يسومهم سوء الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، وجعل الحكم عليهم له وحده، وحسابهم عنده وحده، وأكد على تقلب القلوب، لرفض مبدأ الهداية التامة والكاملة والدائمة، التي لا تزيغ، وهو منافٍ تماماً للطبيعة البشرية الخطاءة التي تأتي الخطأ مراراً، وترجع عنه مراراً أيضاً.
من هنا نقول، إن الناس اللذين يطوعون النصوص الدينية لصالح خدمة السلاطين، إنما يجتنون على النص وعلى أنفسهم، لأن القرآن والسنة أرادت أن تذيب الفجوة بين المستكبرين في الأرض والمستضعفين التابعين لهم، وذلك بتوحيدهم جميعا لعبادة رب واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى قوتهم وسلطانهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم، الخفية التي لا يعلم ما فيها من أحد غيره. فمحاولة تأليه البشر مرفوضة قطعاً، فهم ما جعلهم الله إلا جسدا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين.
وإن من محاولات تأليه هؤلاء البشر، إسباغ الصحة التامة على كلامهم، وآرائهم، والتصديق بها بعينين مغمضتين، فحتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه، في مواضع عدة في القرآن، فمن هؤلاء لكي نعطيهم تسليماً دائم بصحة أفكارهم الموتورة، بأنهم لا يخطئون.
إن الطغاة لا ينتهون، وإنهم منا، وبشر مثلنا، نحن من جعلناهم ينعمون في طغيانهم هذا، حين أمرونا بالقتل فقتلنا، وحين فرقوا بيننا فانصعنا، وحين نادوا فأتينا طائعين، وحين أورثنا أبناءنا من بعدنا الذل، وأن ينكسوا رؤوسهم لمن صفعهم على قفاهم من حراس البلد، حتى قال لنا أجدادنا، غفر الله لهم، لو وجدت الناس يعبدون العجل يا بني، فقدم له (للعجل) الطعام. هذا ما ورثوه من آبائهم، وهذا ما ورثناه منهم، وقد ذم القرآن الأمم السابقة يوم قالوا "هذا ما وجدنا عليه آبائنا"، ولم يعملوا عقولهم.
أخير سأختم بقصة أوردها نديم البيطار في كتابه "من التجزئة إلى الوحدة" عن طاغية الصين الشيوعي، ماوتسي تونغ، الذي وقف في الناس خطيبا ينبذ الحاكم السابق له، ويحط من قدرته لأن الأخير قد مات، وأنه يجب عليهم أن يعبدوا الرئيس ماو، لأن لديه القدرة الكلية، وقد مات ماو، كما مات من سبقه، ولم تنفعه قدرته الكلية المزعومة، وانتحب عليه الناس كعادتهم دوماً، يخافون طغاتهم حتى ولو سبق الموت فيهم
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.