جاء في قاموس التراث الأميركي تفسير مصطلح "التذويت" بأنه جَعْلُ سلوكٍ ما جزءاً من طبيعة الإنسان، وذلك بإكسابه هذا السلوك من خلال التعلم أو إضفائه له من خلال التأثير على وعيه الظاهر والباطن. لقد بذل العديد من العلماء وقتاً وجهداً ليس قليلاً في محاولة فهم تداعيات هذا المفهوم على السلوك الإنساني وتطبيقاته عليه فيما بعد.
في تفكيكه لنظام العقاب العالمي الحديث، قال الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، إن ثمّة فرقاً واسعاً بين نظم العقاب الحديثة والقديمة، ففي حين كانت الصورة النمطية للنظم العقابية القديمة قيام الملوك والأباطرة بالقبض على منافسيهم في مقاليد الحكم، وإيقاع الأحكام عليهم أمام جمع من الناس، كي يكونوا عبرة لغيرهم وإرهاباً لمن تسول له نفسه، ذهب النظام الحديث للعقاب إلى طرق أكثر عبقرية وأشدّ أثراً على المدى البعيد بداية بإجبارهم على القيام بأشغال شاقة لا يقاضونهم عليها أجراً، مروراً بنظم الوضع تحت التصرف والمتابعة الإدارية إلى الحكم عليهم بالمكوث تحت الإقامة الجبرية، وغير ذلك من الأساليب التي تتيح للسلطات المتابعة الحثيثة لكل المجتمع بجريرة البعض بحجة تأمين الجميع.
طرح فوكو تساؤلاً مهمًّا ومشروعًا هل نجحت الأساليب العقابية التأديبية من سجون وغيرها في تحقيق غاياتها التي صممت من أجلها والتي يقع في مقدمتها تأهيل السجناء وتدريبهم على الانضباط تمهيدًا لدمجهم مرة أخرى في المجتمع؟
وبعد مسح معلوماتي في دول عدة، خلص ميشال أن هذه الأساليب لم تصل لغاياتها المذكورة، حيث إن النسبة الأكبر من مرتكبي الجرائم وأصحاب السوابق لم يفلحوا في عمليات الاندماج في المجتمعات المدنية مرة أخرى، بل إن نسبة ليست بسيطة منهم عادت وارتكبت جرائم أخرى وتجاوزات يعاقب القانون عليها، ما دفع فوكو وقتذاك إلى طرح السؤال الأخطر: لماذا ما يزل العالم مصرًّا على اتّباع أنظمة عقابية أثبتت فشلها في تحقيق الغايات المنوطة بها ضمن مساعيها للحفاظ على البنية الكلية للمجتمعات الحديثة؟
يجيب ميشال سريعاً، إن هذا الأسلوب قد أوجد طبقة جديدة في المجتمع هي طبقة "المنحرفين" الذين يشرعنون لاستخدام الدولة وسائل وأدوات القسر، ويشرعنون أيضا لإقصاء فئة معينة من ممارسة الحقوق السياسية، والأهم من كل ذلك شرعنة تدخل السلطة السياسية بشتى الوسائل للحفاظ على البنية الاجتماعية كما هي.
عالم الأنثروبولوجيا الكولومبي الأميركي أرتورو إسكوبار، أجرى مسحاً كبيراً جدًّا ومستفيض لبرامج التنمية التي تمنحها دول العالم الحديث للدول المتخلفة بأهداف معلنة تبدأ بمساعدة تلك الدول على القيام واستحداث تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية ولا تنتهي عند المساعدة في قيام نهضة في الدول ذاتها. ومع ذلك خلُص أرتورو إلى أن الأهداف المعلنة لتلك البرامج لا تتحقق بالكلية، وأن النتائج بالكاد تكون مرضية، ليطرح السؤال نفسه الذي طرحه ميشال من قبل: لماذا يستمر العمل ببرامج التنمية في الدول المتخلفة والنامية طالما أنها لا تؤدي الأهداف المنشودة منها؟
يجيب إسكوبار بنفس الاتجاه الذي أجاب به فوكو على تساؤله، توظيف مبدأ "التذويت" فاستمرار تلك البرامج سمح بظهور دول معينة بحاجة للمساعدة والتنمية بشكل مستمر، إن هذا التذويت يجعلها تتقبل ما سينتج عن تصنيفها كدول دائمة الحاجة للمساعدة، وهو القبول بتدخل الدول الغنية والكبرى، إذن فبرامج التنمية "الفاشلة" الهدف منها هو شرعنة التدخل من أجل استمرارية النهج القائم والذي يخدم دولاً معينة دون أخرى.
لكن ما علاقة الأمر بالإرهاب؟
قدّم الكثيرون مبررات وحججاً واهية إزاء الصمت العالمي الرهيب على تشكل تنظيمات "إرهابية" كبيرة قامت ولا تزال تقوم بعمليات قتل نوعية في شتى أرجاء المعمورة، فمنهم من قال إنّ الصمت جاء في محاولة لتجميع كل المنتمين لذلك الفكر المتطرف في مكان جغرافي محدود لتسهيل عملية مواجهتهم والقضاء عليهم، ومنهم من برّر الأمر بأن النظام العالمي لم يكن يودّ التصادم معهم لئلا تنتقل المواجهة معهم إلى بنيته المجتمعية الداخلية، ومع تطور أجهزة المخابرات العالمية والاستخبارات الدولية وامتلاكها وسائل فائقة التطور في التتبع والمراقبة وكل أشكال القوة الناعمة والصلبة وآليات عبر دولية وتنسيق استخباراتي وأجهزة تنصت وتحسس ذات كفاءة غير مسبوقة وكاميرات مراقبة ترصد كل شيء وبطاقات ممغنطة تمنح الحكومات معطيات دقيقة عن أنماطنا الاستهلاكية والاستطبابية إلخ. فإن القول بأن هذه الأجهزة العالمية قد فشلت بالقضاء عليهم لا يعدو عن كونه محاولة سقيمة لاستخفاف عقول المتابعين، وهي كذبة ساذجة لا يمكن أن تنطلي على أحد.
إذن فلماذا حدث هذا وما زال يحدث؟
أجيب أنها تساعد على تذويت حتمية التدخل والقمع، فإذا كانت هكذا سياسات تساهم في زيادة مبيعات السلاح لمحميات النفط وإيجاد مبررات قوية لاستمرار منطق الوصاية السياسية على أنظمة المنطقة لكن هذه المرة بترحيب شعبي، وكذلك شرعنة التدخل الهادف (ليس لاحتلال الفضاءات الجغرافية بل لاختراق البنى السوسيو – ثقافية)؛ فإن الارتداد الارتجاعي الحتمي لها في الأراضي الغربية من هجمات انتقامية ستساعد على شرعنة السياسات العنصرية ضد المهاجرين، وشرعنة السياسات الانغلاقية تجاه تدفق المزيد منهم، وستضمن أيضاً تمرير حزمة من التدابير التي تجعل من تجميع المعلومات على عموم المواطنين شيئاً متقبلاً بل ومطلوباً في سياق حماية الجميع وصيانة النظام العام.
على ذلك وبنفس المنطق، فإن الهجمات التي تمت في هذا السياق ابتداءً من باريس مروراً ببروكسل وإسطنبول وليس انتهاءً بالسعودية لا تعدو أن تكون رموزًا سيميائيةً عميقة الأثر، عالية الجودة، وهي مصممة لاستيطان الخارطة الإدراكية للضحية قبل المتفرج، تهدف إلى إقناع قاطني الشرق الأوسط بأحقية الغرب في التدخل بشؤونهم، وبأن إبادتهم وقمع جالياتهم في البلدان الغربية يجب أن يكون بالنسبة لهم مطلباً، وللمتبقين منهم مكسباً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.