توقفنا كثيراً أمام مشهد الركض الشهير لطالب الثانوية العامة الأشهر الآن "سيف ناصر" أثناء مظاهرات طلبة الثانوية العامة، فاراً من ملاحقة عناصر الشرطة له بالهراوات وبنظرات الغل والوعيد الواضحة في عيونهم الى الحد الذي صوره البعض بملاحقة الزومبي التي نراها في الأفلام الأجنبية.
ربما لم يكن سيف يهرب من الزومبي الأمني فقط، بل من زومبي مجتمعي وواقع مؤلم أيضاً عايشته أجيال سابقة له، يتمثل في حفظ مناهج عفا عليها الزمن ولا تتسق مع جيل منفتح على العالم ويرى بوناً شاسعاً بين طموحاته وأفكاره وبين سباق الثانوية العامة، الذي لابد أن يفوز فيه وبفارق كبير عن زملائه؛ لينتظره في نهاية خط السباق كلية "قمة" عليه أن يدخلها، وليضمن الحصول على وظيفة ثابتة بدخل شهري ثابت، وأن يتزوج بعدها زيجة جيدة من إحدى بنات كليات "القمة" أيضاً، وإلا شكك الكل في ذكائه واجتهاده، "حسب أعراف مجتمعية بالية"، أو جلس على المقهى كما سبقته إليها أجيال عديدة، أو في أفضل الأحوال سيعمل بمهنة لا علاقة لها بمؤهله الدراسي.
لاشك أن حدث الثانوية العامة هو حدث جلل بكل المقاييس ويستحق الوقوف أمامه ومتابعته بكل تفاصيله كل عام – على الأقل من قبل المعنيين بالأمر – لكنه هذا العام امتاز بنكهة خاصة وأحداث كثيرة لم نعتدها، فحق لنا أن نتوقف جميعا عنده وألا نتركه لأولياء الأموروالطلبة فقط؛ ذلك لما يمكن اعتباره مشهداً مصغراً من مشهد سياسي تعيشه مصر الآن.
بدأ ذلك المشهد بتسريب الامتحانات على مواقع التواصل الاجتماعي وظاهرة الغش الجماعي في اللجان وأنباء عن وجود لجنة في أسيوط مخصصة لأبناء أعضاء مجلس النواب وكبار رجال الدولة بالمحافظة، واشتهرت تلك اللجنة بالغش الجماعي لذلك اعتذر رئيسها عن الاستمرار فيها.
نستطيع أن ندين العقل الجمعي الذي دفع الطلاب للغش والاشتراك في صفحات التسريبات التي انتشرت كالنار في الهشيم وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على مجتمع كامل سيكون عليه أن يتحمل جيلاً من الطلاب وجد نجاحاً سهلاً بلا أخلاق وبلا منافسة شريفة.
لكننا لن نستطيع إدانة كل طالب بشكل فردي إدانة كاملة فالامتحانات أمامه ومكتب التنسيق خلفه وأبناء الكبار تم نقلهم إلى لجنة تشتهر بالغش الجماعي بعد موافقة من الوزير وبناءً على القواعد المعمول بها حسب تصريحه! فما الذي يمنع باقي الطلاب "ولو من باب الفضول" من الاشتراك في صفحات التسريب والتمتع بمزية حظي بها غيرهم ودون عناء؟ كما أن البعض إذا تحدثت معهم سيرد بأن هذا التسريب والغش هو رد على الزومبي المجتمعي الذي لا يرحم، لكنه لازال رداً غير أخلاقي بالطبع.
لم تتخذ الحكومة إجراءات حاسمة في مواجهة التسريبات مع بدايتها كإقالة وزير التعليم واستبعاد مسؤولي مطبعة الامتحانات وإجراء تحقيقات فورية في الأمر.
لكن خرج الوزير ليعلن عن نظام جديد للقبول بالكليات بدءاً من العام القادم يقضي على التسريبات وينهي الحفظ والتلقين، يمزج هذا النظام بين امتحان الثانوية العامة وبين القدرات وما بها من شبهات، فالقدرات هي جمع قدرة وفي المصطلح المصري قد تعني القدرة على إبراز كارت توصية من أحد المعارف المهمين، أو القدرة على دفع المال المناسب لكل كلية "حسب التسعيرة "، أو القدرة على مواجهة قدرات أبناء المدارس الخاصة التي ربما لن يتخطاها طالب المدرسة الحكومية، لا لعيب فيه هو بل في مدرسته ذات القدرات المحدودة.
اقترن إعلان الوزير هذا بتكهنات البعض بالخطوة التالية وهي خصخصة التعليم، وأن كل تلك التسريبات والغش لم يكن محض صدفة بل كان غطاءً ضرورياً للترويج للنظام الجديد، مستشهدين بتصريحات سابقة لوزير التعليم العالي بأن التعليم يمثل عبئاً على الميزانية، كما أن التوجه الاقتصادي للدولة الآن فيما
يبدو للعيان هو الإسراع باستخراج ما في جيوب المصريين تحت دعاوى وشعارات وطنية كصندوق تحيا مصر وبناء قناة السويس الجديدة وغيرها من أشكال انسحاب الدولة من تمويل المشاريع القومية واستبدالها بالمواطن.
استمرت التسريبات المثيرة للشكوك في كل امتحان سواءً قبل الامتحان بساعات أو عقبه ببضع دقائق ما يوحي بتقبل جميع الأطراف للوضع إلى أن تسرب امتحان الديناميكا قبل موعده بعدة ساعات، هنا قرر الوزير حفظاً لماء الوجه ضرورة إعادة الامتحان، وفي تصريح قال إن التسريب قبل الامتحان يختلف عن
التسريب داخل اللجنة! وكأن من سرب داخل اللجنة لن يستطيع غش الامتحان بالكامل.
وهنا أيضاً تضاربت المصالح فقرر طلبة الثانوية العامة التظاهر والمطالبة بعدم إعادة الامتحان وإقالة الوزير الذي رد في استخفاف عليهم: روحوا ذاكروا، إعادة الامتحان تحقق مبدأ تكافؤ الفرص والغاضب من الإعادة هو الطالب الغشاش!
ربما اقتنع بعض البعيدين عن المشهد بكلام الوزير، وربما لم يقتنع البعض الآخر، لكن الجيل الصغير الذي لا يقتنع إلا بعد الفهم والتحليل رأى أن الوزير لو أراد وقف التسريبات لأوقفها من البداية بدلاً من ترك الأمر ليستفحل ثم المجيء في نهاية المشهد بقرارات تضر الطلاب الذين تتحول حياتهم إلى كابوس مع كل امتحان، ما بالنا بالإعادة.
لم يغب عن ذلك المشهد أيضاً الإسقاط السياسي فمحاكاة طلاب الثانوي للكبار والتظاهر أمام نقابة الصحفيين ذكّر الجميع بمظاهرات المطالبة بالحقوق في 25 يناير/كانون الثاني في التحرير ومظاهرات جمعة الأرض أمام نقابة الصحفيين وغيرها من المظاهرات التي لم تؤت ثمارها حتى الآن.
رأى كثيرون أن هذا الجيل هو جيل ثوري بامتياز لا ينصاع للأوامر بسهولة لا يخشى قنابل الغاز ولا الاعتقال، يعرف حقوقه ويتشبث بها سواءً بسخرية لطيفة كالذهاب إلى الامتحان بالجلاليب، أو بتظاهرة حاشدة تحيي أملاً مفقوداً بأن يقضي المستقبل على ماض عنيد لازال هو المسيطر على الموقف حتى الآن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.