يوميّات فنجان في مقهى باريسي!

قبل أن أنام، أعيد شريط النهار الطويل في رأسي، تتسارع الأحداث وتتضارب الأزمات، وكأنّنا نعيش في مرحلة دراماتيكية تشهد نهاية عالم نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وولادة نظام جديد ليس بالضرورة أفضل من سابقه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/05 الساعة 06:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/05 الساعة 06:43 بتوقيت غرينتش

أحّ.. يلسعني لهيب السائل البنّي الداكن الذي ينسكب عَطِراً من فوقي.. يصفعني صفير مكنة الإكسبريسو التي أتّكئ عليها.. يوقظاني من سباتٍ عميق.

لحظات وأرى نفسي مصفوفاً إلى جانب زملائي الفناجين على صينيّة مرفوعة على كفّ نادل، ينطلق ليجول بنا في أرجاء المقهى، فتدور بيننا -نحن أواني البورسلان- لعبة تكهّن سريعة، يحاول كلّ منا من خلالها استشراف أي طاولة سوف يرسو عليها حظّه؛ في الداخل أم على الرصيف؟ ماذا ينتظرني في صبيحة هذا اليوم؟ علّني أرسو أمام زبون لطيف.

أنامل رقيقة تلتفّ حول أوراكي السيراميكيّة، تدغدغني بنعومتها، تسحرني، تسحبني، ترفعني، تحملني إلى فمها، ثمّ تعيدني إلى نفسي طريحاً، متورّد الوجنتين بأحمر شفتيها، ثمّ ترحل وروحي معها، يا لها من بداية نهار رائعة!

ها هو النادل يعود ليعيدني إلى المطبخ.

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فآلة الإكسبريسو من جديد، فطاولة أخرى، وزبائن آخرون، ومغامرة عتيدة.

أتوه لساعة من الوقت بين أوراق مبعثرة، وكثير من الأرقام، وآلة حاسبة، جلوس وعبوس وفلوس، أعتقد بأنّهم يتجادلون فوقي حول صفقة مالية أو تجارية، يبدو أنّ الاستثمارات دونها مخاطر وعقبات جمّة في هذه الأزمة الاقتصادية المستفحلة.

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فآلة الإكسبريسو من جديد.

أجثو أمام نقابيّين يستعدّون لنهار من الإضرابات والمظاهرات ضدّ مشروع قانون العمل الجديد، قد تمكّنوا من ثني رئيس الحكومة الفرنسي، مانويل فالس، عن منع التظاهر ضدّ هذا القانون بعد أعمال شغب كانت قد طالت قلب باريس أثناء مظاهرة سابقة، يتبادلون أطراف الحديث مع تلاميذ فرحين بنهاية فترة الامتحانات الرسمية والعام الدراسيّ.

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فآلة الإكسبريسو من جديد.

أغوص هذه المرّة بين الصحون والفضلات، وجودي ضروري بعد الغداء، ولكن ما هذا المذاق المقزّز؟ ريق حمضيّ حادّ يحرق أطرافي كسمّ الأفعى.. تخنقني رائحة فم كريهة أنْتَنَتْهُ الشعارات التي تخرج منه، صاحبة هذا الفم تكره الجميع، هي مصابة بفوبيا تجاه كلّ ما هو مختلف عنها، تحبّ التقوقع، وتنشد العزلة، وتحلم بالانزواء في خضمّ عولمة جعلت من الكرة الأرضية قرية صغيرة، وجَدْتُها! إنّه مذاق العفن في أفكارها اليمينية المتطرّفة، ها هي تهلّل فرحة بخروج المملكة المتّحدة من الاتّحاد الأوروبي، وتعد بأنّ فرنسا تسير على نفس الطريق.

ماذا؟ بريطانيا العظمى التي كانت تشحط بقلمها في الشرق فتنشأ الحدود، والكيانات المفبركة، والأوطان – الدكاكين، مع ما يرافق ذلك من نزاعات وظلم ومصائب.. هي نفسها مهددة الآن بالتفسّخ والتقسيم بين إنجليز واسكتلنديين وويلزيين وأيرلنديين شماليين، على أثر خروجها من الاتحاد الأوروبي؟ يا لسخرية القدر.

ماء، فصابون، فهواء، فآلة الإكسبريسو من جديد.

أين المنشفة؟ لا وقت لتنشيفي الآن، فالزبائن يتوافدون بكثرة قبل المباراة، إنّهم المشجّعون الذين أتوا من جميع أصقاع أوروبا لدعم منتخباتهم الوطنيّة، أغرق كالقزم بين أكواب الجعة الضخمة، محاولاً فهم الهتافات التي تصدح بها الحناجر بلغات مختلفة، والتي تستمرّ حتّى ساعة متأخّرة جدّاً من الليل.

الأجواء سعيدة، السيّاح ينضمّون إلى المشجّعين، ولكنّ عدد السيّاح أقلّ ممّا كان عليه في السنوات الماضية، كيف لا وقد حصل ما حصل في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي؟ ما زلنا تحت حالة الطوارئ، لم أنسَ بعد.. لم يسلم أحد من كراهية الإرهابيين، حتّى زملاء لي من الفناجين، وهم لا يمتزجون عادة إلّا بالقهوة والسكّر وشيء من الحليب، سقطوا يومها، وتكسّروا، وامتزج فتاتهم بدماء الأبرياء من روّاد المقاهي.

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فآلة الإكسبريسو وعقارب ساعة ضغطها من جديد.

يحاول النادل أن يجد مكاناً لي بين أطباق العشاء، أصابع مفتولة تمتدّ إلى عنقي، شابّ يستلّني، يجرّدني من صحني، يرتشف منّي بسرعة قياسية، يرتجف، يرتعش، يؤشّر بي وهو يتكلّم، يأخذني يميناً ويساراً، فتسيل القهوة على أطرافي، ثمّ يعيدني إلى قاعدتي سالماً، يشعل سيجارته، يطمرني برماد سيجارته، هاي! قليل من الاحترام لجنس الفناجين لو سمحت! فصحيح أنّي بورسولاني النزعة والوجه واللسان، ولكنّي لست منفضة سجائر يا عزيزي! ليتني أستطيع التكلّم في الواقع، لكنت طلبت من النادل نقلي إلى طاولة في الصالة الداخلية حيث يُمنَع التدخين.

يبدو أنّ الزبون المدخّن متوتّر بعض الشيء، ما به؟ كلّما تحدّث مع المرأة الجالسة أمامه، يحمرّ فيزرقّ فيخضرّ، أهي البداية أم النهاية؟ فخدمتي الطويلة على الطاولات في ليالي الأنس علّمتني أنّ الوَلِهين يتوتّرون بهذا الشكل إمّا عندما يبوحون بحبّهم لأوّل مرّة على ضوء زميلتي الشمعة التي تقف شامخة بقربي، وإمّا عندما يعلنون نهاية هذا الحبّ في اللقاء الأخير.

هاي! كنت أريد أن أسمع نهاية القصّة! إنّه النادل، يعود ليعيدني إلى المطبخ، ويحرمني من معرفة ما سوف يؤول إليه الحديث، كم هو كمخ في بعض الأحيان!

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فآلة الإكسبريسو من جديد.

فطاولة أخرى، ولكن ما بال هذا الشخص الواقف خارج المقهى؟ إنّه يرمقني بطريقة غريبة منذ فترة، إنّه يتأمّلني.. يصفن، ويسرح، ويهيم، ويحلم عندما ينظر إليّ، عيناه تقدحان شغفا، وكأنّهما تمتلئان بصبابة العاشقين، من الواضح أنّه مدمن على القهوة وفناجينها، ولكن يبدو أنّه صائم، حتّى العاشرة مساء، أيّام معدودات ويعود إلى القهوة وفنونها، بإذن اللّه.

ماء، فصابون، فهواء، فمنشفة، فالرفّ الخشبي.

انتهت خدمتي اليوم، النادل يقلبني على بطني فتغمض عيناي.

قبل أن أنام، أعيد شريط النهار الطويل في رأسي، تتسارع الأحداث وتتضارب الأزمات، وكأنّنا نعيش في مرحلة دراماتيكية تشهد نهاية عالم نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وولادة نظام جديد ليس بالضرورة أفضل من سابقه.

بات يسود القلق في المقهى، ولكنّي أصرّ على أن أحلم بغد مشرق.

فبعض الأشياء الجميلة في الحياة تبقى ثابتة، رغم كلّ المتغيّرات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد