في حرب "مسيلمة الكذاب" فوجئ القائد الذي لا يشق له غبار "خالد بن الوليد" بالدائرة تدور على المسلمين، وقيل إن أتباع الكاذب الأشر استطاعوا دخول خيمته، وهو القائد، بل أسر زوجته، وكادوا يقتلونها لولا أن أجارها رجل من القوم.
قال الراحل "عباس محمود العقاد" في عبقرية خالد، إنه، رضي الله عنه، لم يكن ليخلع عنه رداء الحرب حتى إن الصدأ علا جزءاً من ملابسه، ولكن سيدنا خالد كما كان في الحرب ماهراً كان في إعمال الفكر والفهم، بخاصة الحربي، كذلك، قال كلمته التي كانت علامة على مدار التاريخ:
– أيها الناس تمايزوا حتى نعلم مِن أين نؤتى!
وهو أجل وأجمل توظيف للتمايز القبلي أو الأهلي، أو سمّه من بعد ومن قبل ما شئت، إنها عبقرية الإدارة التي لا تخيب، وهو يرى الجيش المسلم، وهو على الحق يكاد يُهزمُ ومن أتباع مدعٍ للنبوة حقير مدلس، إذاً فليقف المهاجرون تحت لواء، والأعراب تحت آخر، والأنصار تحت ثالث، بل قيل إنه أمر كل أصحاب لواء بالتمايز وفقاً للبيوتات والبطون.. ومن هنا عما قريب جاء النصر.
"1"
أقصى أمل للمهزوم، ولنكن صرحاء محددين في مصطلحاتنا، وإن آلمتنا، وكفانا تعلقاً بالهواء والكلمات الجوفاء التي ثملنا منها وما نفعتنا؛ لأن الله ترك البعض لأنفسهم يوهمون الصف إنهم يرون ما لا يرى من نصر متوهم، ولا دليل عملي عليه، ولا شاهد، ولا حتى مجرد خطة أو إرهاصات أو حتى سحابة صيف، ويبقى أن أقصى أمنية للمهزوم المصارح لنفسه أن يعود إلى النقطة صفر التي بدأت منها هزيمته.
أما عن حديث الهزيمة فما هو بالعيب إلا على الذين يريدون البقاء في موقفهم، محلك سر، ولم يكونوا قد أعدوا للأمر عدته من قبل، ومع الفارق البالغ: تُرى هل كان للرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يقول يوم "أُحد"، لن ننسحب، ونحن باقون فوق الجبل، الذي يحبنا ونحبه حتى يتنزل علينا النصر؟! حاشا لله!
ثم ما الهزيمة؟ إذا كان هذا الصف قد حاول إصلاح المعوّج من أمر مصر لله تعالى لا لغنيمة أو لدنيا، فإذا كنتَ فعلت ولم تنجح، فلماذا لا تعاود الفعل لله تعالى، وتترك الدنيا ومكتسباتها على الأقل لأجل إخوانك الذين يقضون العيد في المعتقلات الآن، أم أن هناك التباساً ما أوصلت إليه الهزيمة النفسية؟!
ولعل الكلمات مختصر مفيد، ويأتي بعدها في رتبة أدنى وأبعد منزلة أن الإخوان من الأساس ليست الثورة من مفاهيمهم ولا منهجهم، وإنما شاركوا بالفعل واجتهدوا، دون تأصيل واضح، وكان من الاجتهاد الغياب الرسمي في "محمد محمود"، وأكرر الرسمي فقد شارك الشباب والكهول بصورة شخصية، وحديث العسكريين والإخوان ولعبة الخداع والتوهم يطول منذ 1954م.
ولكن واحدكم اجتهد لأجل هداية قومه، والرقي بهم لجعلهم موافقين لغرض دينه، وسابق خلق الله وعلمه فيه وفيهم، فلم يستطِع الوصول إلى ما أراد، فهل هذا كافٍ لكي يحكم على نفسه بالتيّه والبعاد عن دياره، وترك الذين دفعهم دفعاً إلى هذا المصير في السجون والمعتقلات، والأحياء مصابين أو يتضورون جوعاً وقهراً إلا من رحمة الله.
أردتَ الخير لبلدك وقومك، والأهم أمتك ورفعة دينك على أرض الواقع، ولكنك في النهاية ارتضيتَ "طردك" ومكنت الغبي الأحمق منك بحجة صحيحة وغير..
ليست في الكلمات السابقة ولا اللاحقة في هذا المقال دعوة للمصالحة ولا في سابقيّه ولا في لاحقيّه حتى أبد الدهر، وإنما هنا وهناك دعوة لإعمال العقل، مهما قادنا هذا الإعمال، لن ينفك صاحب هذه الكلمات من تكرارها أبى ورفض من أبى، ووافق من وافق.
"2"
لو أنك قُدتَ سيارتك وبها زوجتك وصغارك جميعاً، وبدلاً من الوصول لمكان أكثر رُقيّاً تقضون فيه يومكم أو حتى حياتكم، انقلبت السيارة، فلنفترض، فماتت زوجتك وابنك، وأصيب بنزيف آخر فاحتبسه المستشفى، فيما أصيبت ابنتك بمرض ملازم فهجرها زوجها ولم يعد لها مأوى، أفمن الصواب أن تقول سأبقى في مكاني حتى أرى علاجاً للحادثة وينصرني الله على الشجرة اليابسة، أو البشر الذين وثقت فيهم فانقلبوا عليّ وأغرقوني في الدماء؟!
إن في الأمر معتقلين، يا سادة يتضورون جوعاً ومرضاً، وأهالي لهم لا يجدون من الطعام حد الكفاف فيما أنتم في الخارج منشغلون بالخلافات حتى أقصى مدى، وتتعجب أهؤلاء كانوا أصحاب الضمير؟
أهم.. هم الذين كانوا أفضل ما في مصر؟
أين العقل منهم؟ وأين الأحساس قبل الضمير؟!
"المكتب الإداري" في تركيا طرح الأسبوع الماضي نفسه للاستفتاء على الصف، بمعنى لو أنه اختار ابتعاداً لهم فسيوافق وينسحب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ـ أفلح إن صدق..!
مع فارق التشبيه.
فلماذا لا يأخذ الجميع خطوة إلى الخلف إذاً ليستطيع هذا الصف بهدوء البحث عن حل للمعتقلين والمضارين والجوعى والعراة، والأبناء والآباء للمعتقلين والمصابين والشهداء؟
إن من دلائل السير الخاطئ حتى أقصى مدى ممكن أن ترى الإنسان، مهما كان وكان تفكيره وطبقته الوظيفية وعمله ودينه والأخير بينه وبين ربه يتمادى في اللجاج ومعاداة الصف الذي يقف معه في الأزمة ويتناسى الذين تسببوا فيها وطريق معالجتها!
"3"
من قلب محب للخير لجميع الأخيّار الذين يستحقونه، ومن روح ملت هذه الفُرقة الطويلة وأيقنت أنها نهاية الجماعة حتى يشاء الله أمراً، ومن إنسان لا يريد من أحد جزاء ولا شكوراً أو حتى شيئاً، ويعلن أنه خارج هذه "الأحداث" تماماً لله تعالى، فالأمر أمر دماء، وأسأل الله ألا أشارك فيها ولو بنصف حرف:
تمايزوا أيها "الإخوان":
بل كونوا "إخواناً" من الأساس لأنفسكم، من غلّ درهماً أو ديناراً من مال الله فليعده لله.
الذي اتخذ قراراً خاطئاً فليتراجع عنه ولا يستكبر دون استفتاء ولا لف ولا دوران.
الذي أودى بمصر كلها إلى هذه المفازة والصحراء العريضة من الغرق بالغباء المطبق أمام خيانة العسكر فليعلن مراجعته نفسه واعتذاره بدلاً من التشبث بمنصبه وكأنه "فرض إلهي" على الأمة لا الجماعة.
أصحاب العقول والقلوب والأفهام المتفاوتة، والتي أعرف تماماً أن الغيظ سيد الموقف، فهناك "شباب" في عمر الحماقة تُسلطهم قيادات من الدرجة المزيفة على عقلاء فيسبونهم سباً شخصياً لمجرد الرأي، وقد اعترف لي بشكل شخصي أحد كبار السن بأنه فعلها من قبل مع صاحب الكلمات فسلط عليه أحدهم، ورغم ردي المناسب فإنني حزنت للرجل كثيراً، وما كنا نظن أن يفعلها عضو مكتب سياسي للإخوان عن المحافظة الكبرى ولا داعي للزيادة فضلاً عن أن يفعلها إخوان..
أصحاب العقول الذين استبيحت بيضة عقولهم وحسن فهمهم من الإخوان لا تستلموا للغيظ، فإنني لأكبركم أن تنساقوا خلف هذا أو ذاك لمجرد أن تردوا الغيظ بآخر، وفي الناس صاحب المصلحة القصوى، بل الخائن السارق المدان في سلب المال لنفسه، وقد استطاع إيهمامكم بأنكم تحسنون الفعل، بل ساقكم وراءه بمكر الليل والنهار، وواحد هؤلاء، مع قلتهم وندرتهم، لا يتحكم في أهل بيته، وعبركم يريد التحكم في الأمة كلها، وكأنه لم يكفنا ما نحن فيه من مآسٍ!
"4"
يا أيها الإخوان:
وإن لم تريدوا بقاء فأبقوا على إخوانكم المعتقلين وأهالي المضارين، وأَتوا بالعيد ولو بصورة صغرى للمعتقلين وأهالي المضارين بخاصة الشهداء، وكفى ما رأيناه منكم في الفترة الماضية من فوضى وتنازع على المال، وانحدار في الخُلق، إلا مَنْ رحم ربي، وهم كثيرون لكنهم مغلوبون على أمرهم، كفى خلطاً للأمور وحزناً وإيغاراً للصدور..
كان من المفترض أن يكون لدينا رجال على مستوى المسؤولية لا ينساقون وراء الغيظ وضيق النفس، وقد كانوا بمناصب قيادية من قبل بحكومة الدكتور هشام قنديل، أو بمجلس الشعب، أو محافظين أحياناً، فضلاً عن رجال الدين، ومشتغلين بالسياسة.. بدلاً من العمل على دحر الموقف الحالي في مصر، والبحث عن حل افتعلوا جبهة جديدة للأزمة، وهم يعلمون مقدار ما بها، ومَنْ فيها، وما يؤدي إليه وجودهم بها من ازدياد للاحتقان، وبدلاً من تنقية الصف من الأغيار والخائنين، اقتحموا معهم مجالاً لإغراقه أكثر!
فإن لم تكونوا على قدر المسؤولية.. فتمايزوا حتى تكونوا رجال المرحلة بحق.. وترحموا أنفسكم والأمة والمعتقلين وأهاليهم من همّ اللحظة وبقائكم هكذا بلا غاية ولا هدف إلا الوهم والتوهم..
أيها الناس:
تمايزوا حتى نعلم مِن أين نؤتَى!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.