يحاول البعض كلما ارتكب المجرمون جريمة أن يحاكموها عقلياً؛ ليثبتوا لمرتكبيها أنهم على باطل، ومثال ذلك هو الجريمة التي ارتكبت في تركيا اليوم، فكانت المحاكمة العقلية كالتالي:
"أي جريمة أكبر من فعلكم هذا، فقد قتلتم مسلمين في دولة إسلامية في رمضان وفي العشر الأواخر منه!".
هذا المنطق لا يعمل مع هؤلاء. فالذي قتل سيدنا علياً رضي الله عنه لم يقتله إلّا ليقينه أنه يتقرب لله تعالى بجريمته الشنيعة، ومنذ ذلك اليوم والمسلمون يعانون من آثار تلك الجريمة.
أيضاً، فإن أولئك الذين اقترفوا الجريمة اليوم في مطار أتاتورك في إسطنبول لم يرتكبوها إلّا ظناً منهم أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى.
وكما أن هزيمة هذه العقلية المعوَجَّة لا تتم بقصف الطائرات واحتلال البلاد، إلا أنه أيضاً أصبح من الوضوح بمكان أن هزيمتها لا تتم بالحوار الساذج السطحي أعلاه.
هزيمة هذا العقل لا تتم إلّا بطريقة واحدة وهي توسيد الأمر إلى أهله.
الديمقراطيات الغربية فهمت هذا جيداً، فأقامت نظام حياتها على إفساح المجال للناس لاختيار المتنافسين على خدمتهم عبر برامج محددة يتقدمون بها لنيل ثقتهم، هذه البرامج لا تخرج عادة عن شؤون الأمن والتعليم والعمل والصحة والغذاء.
حين يفقد الناس هذه الأساسيات يصبح سهلاً على أمثال أبي بكر البغدادي والأربعين حرامي الذين معه، يصبح سهلاً عليهم اختراق نسيج المجتمع الذي لن يقف لهم بالمرصاد لقلَّتهم من جهة، ولأنهم يلعبون على قضايا كبرى في ضمير الشعب كالخلافة وتحكيم شرع الله فيظنهم الناس حماة الحمى يتقربون إلى الله بطاعتهم، فيعودون كما كانوا أول مرة تحت أحذية المستبدين، لكنها أحذية من نوع آخر.
فهم الغرب هذه العملية وربطها اجتماعياً بحق الناس في اختيار ممثليهم لتنفيذ هذه البرامج، حتى إذا استتب أمر الأمن مثلاً على يد رئيس وزراء بريطانيا السير ونستون تشرشل وهزم محور النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، اقترع البريطانيون عليه للمرحلة المقبلة، فوجدوا أن الأمان تحقق، لكن الرجل على جلالة قدره وعِظَمِ مكانته عند الناس ليس رجل إعادة البناء فأخرجوه من الحياة السياسية بكل هدوء وأتوا بكليمنس أتلي، رئيس حزب "العمال" الذين سيقومون بالعمل على تعمير بريطانيا.
وكما حدث في أميركا بعد أن فاز جورج بوش (الأب) بالحرب في العراق عام ١٩٩١ فأخرجه الناخبون عبر الصندوق وأتوا بالرئيس بيل كلينتون بدلاً منه لدفع الاقتصاد للأمام حين بدت عوارض تدهور هذا الاقتصاد تظهر بُعيد الحرب ولم يشفع لبوش نصره في العراق.
ثمَّ أثبتت الأحداث فيما بعد في بريطانيا وأميركا صحة توجه واختيار العقل الجمعي للشعبين لمن يظنونه الأقدر والأكفأ على خدمتهم في تلك المرحلة.
إنه إذاً توسيد الأمر إلى أهله للقيام على خدمة الناس.
وصدق الصادق المصدوق حين قال: (من بات آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
هذه الأساسيات: الأمان المستمد من القوة والعلم، والعافية المستمدة (من نظام الرعاية الصحية)، وتوافر القوت المستمد من الزراعة والصناعة الغذائية، وجميعها مستمدة من ضمان العمل في تلك المجالات، هذه الأساسيات هي التي تدور عليها برامج الغربيين، فيما برامج المسلمين تدور على اختزالها كلها بين شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، والشعار المضاد له "الإسلام هو الحل"، هذان الشعاران اللذان أصبحا ستاراً يواري سوءة المتصدرين للعمل العام ويواري فشلهم في تقديم البرامج الكفيلة بإحياء الناس حياة طيبة كريمة، ومن بين ثنايا فشل هذين الشعارين أطلَّ هؤلاء المجرمون برؤوسهم وتجاوزوا البرامج الانتخابية ووعود تحقيقها في الأرض فوعدوا أتباعهم بدلاً عنها برامج النعيم المقيم في الآخرة إن هم قُتِلوا وهم يذبحون الناس.
طالما بقي هناك ظلم للمسلمين وجحافل الطائرات تصب الحميم فوق رؤوسهم، فلن تتوقف هذه العمليات لا اليوم ولا غداً، فليس أسهل من أسلمة راديكالي متطرف يكره الظلم وإلباسه لباس المسلمين ثم لفه بحزام ناسف وإرساله لينكأ فيما يعتقده أنهم قوم ظالمون، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
ولعل الظلم الذي لحق بسوريا وأهلها خلال السنوات الخمس الماضية كان هو الكاشفة التي كشفت عن ظاهرة أسلمة التطرف بعد أن صدَّقْنا جميعاً ردحاً من الزمن أن سبب الظاهرة هُو تطرف المسلمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.