ملخص:
في مؤتمرها العاشر، أعلنت حركة النهضة عن قرارها بأن تفصل بين "السياسة" و"الدعوة"، وأن تحول نفسها إلى حزب ديمقراطي وطني، وهو القرار الذي يعني من الناحية الفكرية أن الحركة ستتنازل بشكلٍ كبير عن السياسية الهوياتية، وعن أجندة الأممية الإسلامية، بينما يدل القرار من الناحية التنظيمية على تخلي الحركة عن النموذج التقليدي لشمولية تنظيم الحركات الإسلامية، وتقليل الروابط، أو قطعها، مع التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.
قد يكون لعملية إعادة الإنتاج هذه آثار إيجابية على أداء الحركة السياسي وعلى قبولها محلياً ودولياً، مع ذلك، فمن المتوقع أن تواجه الحركة تحدياتٍ متعلقة بقدرتها على الاستقطاب والحشد والتعبئة، وباستقرارها وتماسكها من الداخل.
"نهاية الإسلام السياسي"، "النهضة تتخلى عن الإسلام السياسي"، "من الإسلام السياسي لديمقراطية الإسلام"، مستخدمةً هذه العناوين الدرامية التي تخطف الأنفاس، غطت العديد من وكالات الأخبار العالمية المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة، الذي عُقد في العشرين من مايو/أيار عام 2016. أعلن قادة الحزب في ذلك المؤتمر ما يوصف بأنه نقلة فكرية، أو "إعادة إنتاج لصورة الحزب" بعد قرارهم بفصل "السياسة" عن "الدعوة"، وتحويل حركة النهضة إلى حزب ديمقراطي وطني عادي.
يرى راشد الغنوشي، مؤسس حزب حركة النهضة، ومنظّره الرئيسي، ورئيسه الحالي، أن هذا القرار علامة على "النضج". على الجانب الآخر، أطلق هذا القرار عاصفة عارمة من الانتقادات، التي تضمنت اتهام قادة الحزب بخيانة تاريخهم وأفكارهم بهذه التنازلات المشينة من أجل إرضاء التيار العلماني التونسي والقوى العالمية.
ليس الهدف من هذا المقال مدح أو ذم ذلك القرار، بل هو محاولة لفهمه بشكلٍ أعمق، ومعرفة الانعكاسات الممكنة لذلك القرار على المستقبل السياسي لحزب النهضة، ولكن قبل الخوض في هذه النقاط، من الضروريّ تتبع جذور إشكالية ثنائية السياسة/الدعوة في الحركة الإسلامية المعاصرة، وهي الإشكالية التي يدّعي حزب النهضة تخطيها من خلال قرارهم في مؤتمر الحزب الأخير.
شمولية الإسلام، وشمولية الحركات الإسلامية:
قد يرى البعض أن العلاقة الجدلية بين "السياسة" و"الدين"، أو ثنائية "السياسة" و"الدعوة" في سياق الحركات الإسلامية يُمكن تفسيرها من خلال الطبيعة السياسية للإسلام. إحدى الحُجج المعتادة بأن الإسلام دينٌ سياسي تستند على أنه وُلد كجماعة سياسية ودينية، أي أنه يمثل طائفة دينية ومجتمعا سياسيا في آنٍ واحد، إلا أن هذا المقال يؤكد حداثة إشكالية السياسة/الدعوة، وأنها مرتبطة بخروج الحركات الإسلامية الحديثة إلى النور، تتضح أصول هذه العلاقة الجدلية من خلال تعريف حسن البنّا لشمولية الإسلام، ذلك التعريف الذي أسهب في تفصيله في إحدى أشهر مقولاته:
"الإسلام نظامٌ شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولةٌ ووطنٌ أو حكومةٌ وأمة، وهو خلقٌ وقوة أو رحمةٌ وعدالة، وهو ثقافةٌ وقانون أو علمٌ وقضاء، وهو مادةٌ وثروة أو كسبٌ وغنى، وهو جهادٌ ودعوة أو جيشٌ وفكرة، كما هو عقيدةٌ صادقة وعبادة صحيحة، سواءً بسواء".
الشيء المُربك بخصوص هذا التعريف ليس فقط التضخيم الواضح للحيز الديني وإضفاء القدسية على البنية المجتمعية والممارسات الطبيعية للأفراد بداخلها، لكن أيضا الآداة التي ابتكرها البنَّا للتعبير عن الإسلام الشامل عن طريق تأسيس حركة شاملة.
في رسالته "الإخوان تحت راية القرآن" يقول حسن البنّا: "لسنا حزباً سياسياً، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعية خيرية إصلاحية، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقاً رياضية، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا، لسنا شيئاً من هذه التشكيلات"؛ ليعود ويعرّف جماعة الإخوان المسلمين بأنها: "دعوةُ سلفية، وطريقةٌ سنية، وحقيقةٌ صوفية، وهيئةٌ سياسية، وجماعةٌ رياضية، ورابطةٌ علمية وثقافية، وشركةٌ اقتصادية، وفكرةٌ اجتماعية".
من الواضح تأثر حسن البنا الشديد بالأيديولوجيات السياسية الطوباوية وما يتصل بها من نماذج شمولية للتنظيم المجتمعي، تلك الأفكار التي كانت رائجة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي؛ لذا، على الرغم من إعطائه الأولوية لإصلاح المجتمع عن طريق الدعوة والأعمال الخيرية، فإنه قد قام بخطوتين مهمتين من الناحية الاستراتيجية في أول الأربعينيات؛ الأولى هي قراره إقحام الجماعة في السياسات الحزبية، وأن تشارك في الانتخابات البرلمانية بعامَي 1941 و1945، والثانية هي قيامه بتأسيس جناح عسكري للجماعة (أُطلق عليه اسم الجهاز الخاص) الذي تورط في أعمال عنفٍ ضد القوى الاستعمارية وضد الصهاينة بفلسطين، بل وضد الخصوم السياسيين بمصر.
كانت هذه هي بداية العلاقة الجدلية بين الجانبين "السياسي" (أو "الحزبي" ) و"الدعوي" للحركات الإسلامية، وذلك بسبب اختلاف كلا الجانبين في طبيعة التنظيم، والاستقطاب، والعضوية، والنشاطات، والخطاب، وأخيراً الأهداف، ومن ثم، كانت الطبيعة الهجينة الجديدة للحركات الإسلامية سبباً في ظهور العديد من السلبيات، كقصورٍ في الاحترافية، والخطاب المشتت، والاستراتيجيات المبهمة، وما شابه ذلك، لكن على صعيدٍ آخر، أثبتت هذه الصورة الشاملة للحركات الإسلامية فاعليتها في القدرة على استقطاب الأعضاء وحشد الموارد. المميزات التي طغت في أعين الحركات الإسلامية على حساب إدراكها لعيوب طبيعتها الهجينة التي اكتسبتها، ومنحتها إحساساً زائفاً بالتحقق والرضا.
بعد المدة القصيرة التي قضتها في سُدة الحكم، أثناء صحوة الربيع العربي، يبدو أن حركة النهضة قد أدركت عيوب كونها حركة شاملة، فقررت أن تسلك منحى أكثر تخصصاً، القرار الذي يُعد ختام مسارٍ طويل من تطور الحركة الإسلامية التونسية.
التطور الفكري والتنظيمي لحزب حركة النهضة
في خطابه الرئيسي بمؤتمرها العاشر، لخص راشد الغنوشي تطور حركة النهضة إلى ثلاث مراحل متعاقبة:"تطورت حركة النهضة منذ السبعينات إلى اليوم من حركة تخوض معركة من أجل الهوية إلى حركة احتجاجية شاملة، تدعو إلى الديمقراطية، إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي".
من الناحية التنظيمية، ظهرت الحركة الإسلامية في تونس باسم "الجماعة الإسلامية"، التي تأسست عام 1972، وتحولت بعد ذلك عام 1981 إلى "حركة الاتجاه الإسلامي"، وأخيراً، استقرت على المُسمى الحالي "حركة النهضة" عام 1989.
بإمكاننا أن نزعم أن هذه المنظمات الثلاث تمثل ثلاث صور مختلفة للفكر الإسلامي، أولى هذه الصور تمثلت في الجماعة الإسلامية التي كانت جماعة دينية خالصة، تدعو إلى مبادئ الدين الإسلامي في المساجد، وتصدر مجلة باسم المعرفة تتحدث فيها عن القضايا الاجتماعية والدينية، كالأسرة والتعليم، بالإضافة إلى تهذيب شباب الجماعة بالأخلاق الإسلامية.
في السادس من يونيو/حزيران عام 1981 تخلصت الجماعة الإسلامية من اسمها القديم لتصبح حركة الاتجاه الإسلامي. وقد حوت الوثيقة التأسيسية لهذه الجماعة على القسمات الأربع المميزة لحركات الإسلام السياسي:
1. تأكديها ارتباط الدين بالسياسة، وإعلانها عن تبني الصورة الشاملة للإسلام، وتعهدها بممارسة سياسية غير مشوبة بالعلمانية أو البراغماتية، واصفةً النداء بفصل السياسة عن الدين بأنها أفكار مسيحية مدسوسة، واستمرار لآفات الحداثة.
2. تركيزها على سياسات الهويّة، جاعلةً هدفيها الأولين هما إحياء الشخصية التونسية الإسلامية، وتجديد الفكر الإسلامي.
3. تبنيها للفكر الإسلامي الخالص بفرضها على نفسها مهمة "المشاركة في بعث الكيانات السياسية والحضارية للإسلام على جميع المستويات؛ محلياً وإقليمياً وعربياً ودولياً.
4. اتباعها لمزيج من الأساليب السياسية والدينية لتحقيق أهدافها، التي تضمنت إحياء الدور الأصيل للمساجد كـ"مراكز للعبادة وللحشد" وبإطلاق العنان لثقافةٍ إسلامية وحركة فكرية، وبمقاومة التسلط، وبتطوير وتجسيد النموذج المثالي الحديث للحكم الإسلامي، وبتطوير وتطبيق مبادئ القومية الإسلامية، وغيرها.
أصبحت حركة الاتجاه الإسلامي تحمل اسم حركة النهضة عام 1989، كان هذا التغير بهدف اغتنام فرصة الانفتاح السياسي الذي أعقب انقلاب زين العابدين بن علي الذي أطاح بالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة عام 1987، فقد حاول بن علي في بداية فترة حكمه أن يعزز شرعيته بوعودٍ عن تحولٍ ديمقراطي وعن إرساء نظام سياسي تعددي (تلك الوعود التي ستتبخر فيما بعد)، ولطمأنة النظام الجديد بالإضافة إلى ضرورة الاتساق مع القانون التونسي لتنظيم الأحزاب السياسية الذي يمنع تأسيس أحزابٍ دينية، قرر الغنوشي وبقية القادة الإسلاميين أن يغيروا اسم منظمتهم إلى "حركة النهضة"، وذلك لحذف كلمة "الإسلامية" من الاسم، كما قرروا مراجعة أفكار الحركة؛ لذا يزعم البعض أن حزب النهضة كان للحركة الإسلامية التونسية بمثابة نقطة انفصال عن الحركات الكلاسيكية التي تمثل الإسلام السياسي.
إن العلاقة بين حركة النهضة وجماعة الإخوان المسلمين علاقة معقدة إلى حدٍ ما، لا شك في أن مؤسسي حركة النهضة (راشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو) قد تأثروا كثيراً بمفكري الإخوان المسلمين كحسن البنا وسيد قطب، ولكنهم قد تبنوا نسخةً غير اعتيادية من أفكار الإخوان المسلمين، بمزجها مع مراجع فكرية أخرى مثل تراثهم التونسي الإصلاحي، وبعض المراجع الشيعية مثل الخميني، والصدر، وعلي شريعتي، بالإضافة إلى الأفكار السياسية الغربية، لكن على المستوى التنظيمي، فلقد كان حزب النهضة جزءاً من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، حتى ولو كان ذلك الكيان فضفاضاً وغير منظم.
هاتان الخطوتان التاريخيتان في سياق تطور الحركة؛ من جماعة دينية خالصة إلى حركة إسلامية سياسية كلاسيكية، ثم إلى حزب إسلامي غير تقليدي، تلتهما نقلة جديدة في المؤتمر الأخير للحركة، والتي يُمكن بعده أن تصنف بـ "الحركات المابعدإسلاموية"، برفضها التسييس المُفرط للإسلام وأدلجته، بالإضافة إلى إقرار المُثل الاجتماعية الدينية باعتبارها مرجعاً للحياة الاجتماعية.
بنية جديدة… فكر جديد؟
قرار حركة النهضة بفصل "الدعوة" عن "السياسة"، وتحوّل الحركة إلى حزب ديمقراطي وطني قد أثار زوبعة من الجدل والتعليقات، بين تأييد البعض لهذا القرار معتبرين إياه خطوة هامة تجاه المزيد من المهنية والتطور السياسي، وانتقاد البعض له واصفين إياه بأنه براغماتية كاذبة وتنازل مشين، يرى البعض أنه قرارٌ تاريخي، ويؤمن آخرون بأنه ليس بالأمر الجلل، بل هو مجرد تعامل مع حكم الأمر الواقع للحركة، خاصةً بعد الربيع العربي.
يصعب مع كل هذا الجدل الإمساك بالمعنى الحقيقي لهذا القرار وإدراك أهميته، لكن يبدو أن حركة النهضة تحاول إعادة إنتاج نفسها تحت بنية جديدة وبفكرٍ جديد.
فمن الناحية الفكرية، قررت الحركة التخلي بشكلٍ كبير عن سياسات الهوية لصالح سياسات عملية تتمحور حول الحياة السياسية ذاتها، وقد صرّح الغنوشي في نص خطابه خلال المؤتمر بأن "الدول الحديثة لا تُدار بالأفكار والشعارات الفضفاضة والمزايدات، بل بالبرامج والحلول الاجتماعية والاقتصادية"، كما أن الحركة قد قررت أن تتخلى عن أجندة الأممية الإسلامية المتماثلة في طبيعتها مع أجندات حركات الإسلام السياسي، وتبني أخرى ذات نهجٍ محلي تركز على الشأن التونسي.
بينما من الناحية البنيوية أو التنظيمية، فهذا القرار يعني تحوّل الحركة إلى حزبٍ عاديّ، وتخليها عن أنشطتها الدينية والدعوية. يقول الغنوشي مؤكداً النهج الجديد: "حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية، وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي". سيؤدي القرار أيضاً إلى إضعاف الروابط بين حزب حركة النهضة والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، إن لم يتم قطعها.
على صعيدٍ آخر، فقد تم تضخيم هذا القرار ونال ردود فعلٍ مُبالغاً فيها، فمن الواضح أن هذه التغييرات في بنية الحركة وفي فكرها لا تمثل نقلة مفاجئة أو كبيرة في مسار تطورها، ولا تعني أيضاً علمنة بنية الحركة أو أفكارها، بل هي كما وصفها الغنوشي محض "تخصص وظيفي"، بينما بالنسبة للجانب الفكري، فالغنوشي قد هاجم المتطرفين العلمانيين في تونس، زاعماً أن للدين دواً هاماً؛ لأن "قيم الاسلام محركةٌ للتنمية والحث على العمل والبذل، والصدق والنزاهة، ونظافة اليد، وقوة دفع في حربنا على الدواعش والتكفيريين ومساندة جهد الدولة في التنمية".
الأمر الأكثر أهمية بخصوص هذا الشأن هو معرفة نتائج هذا القرار على المستقبل السياسي لحزب حركة النهضة، قد يرى البعض أن النهضة ستستفيد من زيادة مهنية الأداء السياسي، وستحظى بمزيدٍ من القبول المحلي والدولي. مع ذلك، فمن المتوقع أن تواجه الحركة تحدياتٍ بسبب تخليها عن هويتها السياسية، والشكل التنظيمي للإسلام السياسي التقليدي، مما قد يؤثر بالسلب على قدرتها على الاستقطاب والحشد والتعبئة، وعلى اتزانها وتماسكها من الداخل، بالإضافة إلى عدم معرفة كيفية تعامل حزب النهضة مع الأنشطة الدعوية.
فمن الواضح أن الحركة لن تنخرط بعد الآن في هذه الأنشطة، لكن ما البديل؟ هل ستقوم الحركة بتأسيس (أو على الأقل دعم) منظمة أخرى بديلة لتقوم بالدعوة؟ أم هل ستنسحب الحركة من هذا المجال بالكامل؟ وإذا قامت بالانسحاب، من سيملأ الفراغ الذي ستتركه الحركة؟ هل سيغتنم المتطرفون الإسلاميون هذه الفرصة ويتوسعون في أنشطتهم لملء هذا الفراغ القيّم؟
بكل تأكيد، تستحق حركة النهضة كل التقدير لاستمرار ديناميكية فكرها وتنظيمها، ولقدرتها على التطور والتوافق، لكنه من المبكر جداً إصدار أية أحكامٍ على قرارها الأخير، أو محاولة تقييم الآثار المحتملة لهذا القرار على جميع أطياف حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
هذه التدوينة منشورة على موقع منتدى الشرق للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.