"مبارك كان فاسد آه، بس كان وطني، إنما الإخوان خونة!"
قالتها صديقتي بصوتها الملهوف والمضطرب والموجوع على بلادنا، نفس الصوت الذي كان يجيئني عبر "سكايب" عندما كانت هي في إسبانيا وأنا في الولايات المتحدة أتابع دراستي وهي تتابع عملها، أستاذة جامعية مستنيرة ضميرها يقظ ومن أبناء الطبقة المتوسطة المصرية مثلي.
جاء صوتها المضطرب هذه المرة قبل ثلاث سنوات في مثل هذا الوقت من العام، في منتصف رمضان، كان أنصار جماعة الإخوان المسلمين يواصلون اعتصامهم في ميدان رابعة العدوية، وأنا أواصل الحياة في القاهرة وهي عادت أيضاً؛ لتواصل عملها في جامعتها، كنت أكتب تعليقاتي ورأيي فيما يحدث في مصر وقت الغليان الكبير، ويبدو أن الصديقة كانت تتابع ما أكتب، فاتصلت بي لـ"تصويبي" أو ربما ما رأته واجبها في "إفاقتي"، وتنبيهي للخطر المحدق بالبلاد.
أذكر ذلك اليوم جيداً، كنت مستلقاة بعد الإفطار في مسكني في حي الدقي في الطابق السادس؛ حيث أتتني قبلها بأيام هتافات مظاهرات يونيو/حزيران ورجت جدران المسكن، أما الأعلى صوتاً في رأسي فكانت العبارة الخالدة لحسام تمام رحمة الله: "تفكيك الأيديولوجية ونهاية التنظيم"..
كانت مكالمة صديقتي صادمة مربكة لي، لا أصدق أُذني، استمعت لها وتناقشنا ثم سألتها أي وسائل إعلامية تتابع، وأي قنوات تشاهد، بفطنتها أدركت سؤالي.
الآن نحن لا نتواصل، وأخجل أن أتواصل لأسألها كيف ترى الأمور الآن؛ لأنها ليست وحدها التي كانت ترى جماعة الإخوان هي الخطر الوحيد والأعظم المحدق بمصر وقتها.
وقتها كان الإخوان هم الشر، كما أرادنا النظام الحاكم في مصر أن نراه، ذابت كل الشرور الأخرى وتقزَّمت المخاطر، مخاطر بناء سد النهضة، مخاطر التراجع الاقتصادي مخاطر السياسة في عالم متغير تحتاج مصر فيه جهداً وقدرة لتجد لنفسها قدماً في هذا العالم العجيب.
(وقتها أريد للمصريين أن يعموا عن كل المخاطر، وأن يروا الإخوان فقط هم العدو، الواجب القضاء عليه، وقد كان).
يوم آخر أذكره وصديقة أخرى، اتصلت بي وكانت صداقتنا ممتدة لسنوات تتجاوز العشر، اتصالها أعقب نشري لتحقيق صحفي عن قبيلة "العزازمة" السيناوية وآلامهم وعزلتهم ومأساتهم، سألتني الصديقة: "مش دول اللي تبعهم الجاسوس عزام؟".
أخبرتها أنني لا أعلم، وأنني لا أعلم سوى أنهم بشر مسلوبة حقوقهم، وأن بينهم أطفالاً كل ما يأملونه هو فرصة للذهاب إلى المدرسة، وسيدة عجوز أمنيتها في الحياة حج بيت الله الحرام، وأن عدم إعطائهم حقهم في الجنسية المصرية يجعلهم أسرى لقطعة الأرض التي يعيشون عليها بلا حقوق.
لكن هكذا أُريد لنا، أن ننظر نظرة مغمورة بالشك لأبناء سيناء، حتى تمر كل التجاوزات الإنسانية والحقوقية المفزعة التي تحدث في حقهم، والتي تبدأ من الحرمان من التنمية، ولا تنتهي بما حدث ويحدث في رفح والشيخ زويد.
اليوم الثالث الذي أذكره عندما خرج التلفزيون المصري يخبرنا أن المسيحيين في مصر يهاجمون الجيش العظيم وأن علينا كمصريين غير مسيحيين أن ندافع عن جيش مصر ضد "الأقلية القبطية الباغية"، هكذا أرادت لنا السيدة رشا مجدي، مذيعة التليفزيون المصري الرسمي يوم مذبحة "ماسبيرو" التي راح ضحيتها 17 مواطناً قبطياً أن نرى الأمر.
ليس الأمر مقتصراً على مصر فقط، في ألمانيا وبعض الدول الأوروبية وفي أحد العهود التعيسة أُريد لليهود بها أن يكونوا العدو الذي يجب التخلص منه، وفي أميركا في الواقع والسينما بقينا لسنوات نرى الهنود الحمر في الأفلام الأميركية هم العدو الذي يحارب ويريد قتل "الإنسان الأبيض الجميل".
والآن المشهد يتكرر في أميركا.. في القرن الواحد والعشرين يظهر مرشح رئاسي يضع المسلمين في هذه الخانة "مصدر الخطر" الذي لا يجب السماح له بدخول "بلاده".
أؤمن دائماً وأكرر أن التاريخ كائن مستدير، لا يمر التاريخ البشري في خط مستقيم، يمر بنفس المسارات بعد كل فترة من الزمن، أسهل طريقة للسيطرة على البشر والتحكم فيهم والجور على حقوقهم هي أن تخلق عدواً منهم، ثم تبدأ في محاربة ذلك "العدو".. سواء كان هذا العدو الإخوان أم الهنود الحمر أم الأقباط في مصر أم بدو سيناء.. الأمر الذي يجعلني أحياناً أفكر: هل يأتي وقت على البشر يقررون فيه أن "قصار القامة" مثلا.. يشكلون خطراً على البشر ويجب التخلص منهم؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.