عندما تعظنا الحكومة بما لا تتعظ به!

ربما اختارت الحكومة أن توجه حملاتها الإعلانية إلينا بتلك الطريقة؛ لتظل أصابعنا مشيرة بالاتهام إلينا في الوقت الذي تظهر فيه الحكومة، وأي حكومة مقبلة، بمظهر الطبيب الذي نصح مريضه بوصفة سحرية لمرضه العضال؛ لكنها في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن ذلك المرض؛ ليتوفى المريض متأثراً بإهماله الجسيم في حق نفسه، فلا يحق لنا إذن محاسبة ذلك الطبيب.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/28 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/28 الساعة 04:43 بتوقيت غرينتش

استثمرت الحكومة المصرية حب جلد المصريين لذاتهم، وأطلقت حملات إعلانية بهدف غسل يدها من الفساد وارتفاع الأسعار وأي أزمة مقبلة في قطاع الطاقة وغيره؛ فغالباً ما يلقي المصريون من طبقة البسطاء تحديداً -وهي بالطبع تشكل الأغلبية- بتبعية ما يحدث لنا من أزمات اقتصادية وسياسية على سلوكياتنا "نحن"، ويشاع أن الحكومة بكل ما أوتيت من أسباب للقوة وعصي سحرية ستعجز عن إصلاح ما أفسدناه، تفتق ذهن القائمين على الحملة أن يوجهونا على طريقة الأم المصرية في نصح أبنائها "اللي ياكل على ضرسه ينفع نفسه"؛ فها قد أعطتنا الحكومة الدليل السحري للتخلص من أزماتنا وما علينا سوى اتباعه، وإلا سيتحتم علينا لوم أنفسنا فيما ستؤول إليه أمورنا بعد ذلك.

جاءت الحملات الإعلانية كالتالي:
1- حملة تحت شعار "وفَّر لنفسك":
تحاول تلك الحملة جاهدة إقناعنا بأن ما نعانيه من ارتفاع الأسعار هو فقط بسبب إسرافنا في استهلاك الكهرباء والوقود، الأمر الذي تضطر معه الحكومة إلى استيراد الغاز من الخارج، وبالتالي ترتفع الأسعار، وتستشهد الحكومة بنسب الاستهلاك المنزلي وهي 43% من إجمالي الاستهلاك، كما لم تنسَ الحكومة إبراز نجاحاتها المتمثلة في إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح وكل المتاح، لم تحدثنا الحكومة في تلك الحملة عن باقي الاستهلاك من الكهرباء، وهو 57%، كما لم تحدثنا عن الفائدة التي عمت علينا وعلى الاقتصاد بعد قرارها دعم مصانع الحديد عبر ما ندفعه من ضرائب، فخفضت أسعار الغاز المباع لتلك المصانع، التي قابلت القرار لا بخفض أسعار الحديد كما يتوقع أي عاقل، بل زادت 400 جنيه في الطن!

لم أقتنع أنني كمواطنة أو حتى غيري من المواطنين بأننا قد نكون السبب الرئيسي في ارتفاع الأسعار في وقت يشهد فيه البلد أزمة دولار تتراوح أسبابها بين توقف ضخ الأموال الخليجية وانهيار قطاع السياحة وانخفاض تحويلات المصريين بالخارج وهروب المستثمرين بعد زيادة التعريفة الجمركية وما أخذته الحكومة من حلول تسكينية مؤقتة أدت إلى تفاقم الأزمة، وغيرها من الأسباب الناتجة عن سياسات حكومية خاطئة لا دخل للمواطن فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

2- حملة إعلانية تحت شعار "بقصد أو بحسن نية الفساد خسارة عليك وعليَّ":
لم تحدثنا الحملة عن خطوات جادة لمحاربة الفساد، ولا عن طريقة ناجعة لاستعادة الأموال المهربة في الخارج ولا أعلم إلى من توجه الدولة ذلك الشعار؟ هل إلى رموز الفساد في عهد مبارك الذين خرجوا من سجونهم واحداً تلو الآخر بل تم تخفيض غرامة بعضهم واستعادوا كل ما كانوا عليه وكأن شيئاً لم يكن هل سيتعظ هؤلاء بتلك الحملة؟ أو قد يكفون عن الفساد والإفساد الذي مارسوه عبر عقود؟

أم هل قررت الحكومة العمل بمبدأ عفا الله عما سلف وتوجه ذلك الشعار إلى الموظف الصغير المعرقل لمصالح الناس؟ والذي ظهر في تلك الحملة كمن يدير الأمر من رأسه بعيداً عن ذراع الحكومة التي تستنكر أداءه وكأنها ليست هي من أنتجت جيشاً طويلاً على شاكلة ذلك الموظف عبر غابة من القوانين واللوائح تفنن كل مسؤول حكومي في إعدادها بشكل متضارب يتوه فيه الكثيرون، ويفسرها كل موظف حسب هواه، فتارة تجد اللوائح هينة لينة حين توافق ذلك الهوى وتارة أخرى تجدها صلبة قاسية حين لا توافقه؟ أم هل ستوجه الحكومة ذلك الشعار لنفسها أولاً وتسحب قانون الخدمة المدنية الذي ما زال حتى بعد تعديله يشجع على الفساد فيمنح الإدارة سلطات واسعة، ويفتح الباب أمام الطريق للمحسوبية عن طريق الترقية بالاختيار وليس الأقدمية، فيجعل الموظف تابعاً لمديره عليه إرضاءه طيلة الوقت وبأي طريقة؟ وأخيراً فلم تحدثنا الحكومة عن مستقبل محاربة الفساد في ظل حظر النشر في العديد من قضايا الفساد الكبرى كرشوة وزير الزراعة الأسبق وبعض رجال القضاء وضباط الشرطة.

3- حملة إعلانية تحت شعار "بكل فخر صنع في مصر":
لم تحدثنا الحملة عن السبب الحقيقي وراء عزوف المصريين عن شراء منتجات بلدهم، كما لم تحدثنا عن خطوات لتحسين جودة المنتج المصري، ولا عن خطة طموحة لاستعادتنا لصناعات كانت يدنا فيها هي العليا يوماً ما، كصناعة الغزل والنسيج وصناعة الأثاث وغيرها، ولم تخبرنا عن إجراءات لدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، ولا عن سبل تعزيز التنافسية وإلغاء الاحتكار، ولم تحاول الحملة حتى طمأنتنا كمستهلكين بضمان تلك المنتجات وبحمايتنا عبر خدمة ما بعد البيع، لكنها ربطت بسذاجة بين انبهارنا بتصرفات الأجانب واستنكارنا لنفس التصرفات إذا صدرت عن مصري، وبين تفضيلنا للمنتجات الأجنبية على مثيلتها المصرية وبحسب تفسير الحملة أنها "عقدة الخواجة".

ربما اختارت الحكومة أن توجه حملاتها الإعلانية إلينا بتلك الطريقة؛ لتظل أصابعنا مشيرة بالاتهام إلينا في الوقت الذي تظهر فيه الحكومة، وأي حكومة مقبلة، بمظهر الطبيب الذي نصح مريضه بوصفة سحرية لمرضه العضال؛ لكنها في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن ذلك المرض؛ ليتوفى المريض متأثراً بإهماله الجسيم في حق نفسه، فلا يحق لنا إذن محاسبة ذلك الطبيب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد