لطالما تميّز السلطان في اختيار الوقت المناسب لتمرير رسائله في الأوقات الحرجة داخلياً وخارجياً. هو رجل تركيا الأول من دون منازع، ويتميّز ببراغماتية قلّ نظيرها. يستطيع تقمص دورين متناقضين في وقت واحد، ولا مكان للخسارة عنده. كان ينتظر بفارغ الصبر اليوم الوطني الروسي لإرسال برقية التهنئة للقيصر، علّه يكسر بذلك حالة الجمود الدبلوماسي الحاد مع موسكو عقب إسقاط الجيش التركي مقاتلة روسية على الحدود مع روسيا في نوفمبر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
على مدى سبعة أشهر عجاف من التوتر التركي الروسي، لم يفلح رجب طيب أردوغان في فتح قنوات اتصال رسمية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. أوصل رسالته في توقيت بالغ الحساسية والتعقيد، آملاً تلقفها من الجانب الروسي وقراءة ما بين سطورها بتمعّن. يمكن القول إن أردوغان أطلق صافرة المساعي الدبلوماسية في سبيل إعادة العلاقات مع موسكو، بعدما اقتصرت هذه المساعي خلال الأشهر السبعة على تصريحات حملت في طيّاتها رغبة بإنهاء التوتر، إلاّ أنها في حقيقة الأمر لم ترتقِ إلى مستوى يمكن الحديث معه فعلاً عن مساعي دبلوماسية أو شيء من هذا القبيل.
صحيح أن الردّ الأوّلي من الكرملين على البرقية لم يحمل في طيّاته أي جديد في الموقف الرسمي المتمسك بطلب الاعتذار، ودفع تعوضيات مالية، إلى جانب معاقبة المسؤولين، إلاّ أنه لا يمكن الجزم بحتمية فشل المحاولة التركية أو نجاحها في ضوء رفض أنقرة لهذا المطلب. ولو أن إنهاء الصدام يقتصر فعلاً على اعتذار من هذا النوع، لكان من السهل على الزعيمين تدوير الزوايا وإيجاد مخارج دبلوماسية تحفظ ماء وجهيهما، لكن الأتراك والروس يدركون على حد سواء أن الخلاف أبعد من ذلك. وما حادثة إسقاط الطائرة إلاّ تلك القشّة التي قصمت ظهر البعير.
منذ الدخول الروسي المباشر على خط الصراع السوري نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، بدا أن حرباً بالوكالة وصراعاً شرساً على النفوذ اندلع للتو بين دولتين تتضارب مصالحهما بشكل حاد في هذا البلد. فبقدر ما شكّل دعم بوتين لحليفه الأسد -عدو أردوغان اللدود- استفزازاً مباشراً للأتراك، كانت موسكو تنظر إلى الدعم العسكري التركي المقدم إلى فصائل المعارضة السورية المسلحة على أنّه تحدٍّ لها وعائق أساسي أمام نجاح تدخلها العسكري في تحقيق أهدافه بشكل كامل.
صحيح أن الضربات الجوية الروسية كان لها الفضل الأول في الحيلولة دون سقوط النظام السوري وتقوية موقفه الميداني على الأرض، لكنّها لم تفلح في القضاء على معارضيه، لا بل إن الروس وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف أمام حرب استنزاف يستحيل الخروج منها بانتصار حاسم، واضطروا إلى تعديل أجندة التدخل بإعطاء أولوية لمساعي التسوية السورية، من أجل الخروج من المستنقع السوري بأقلّ الخسائر.
في حرب الوكالة، من السهل عليك إيجاد الأدوات التي توجع الخصم وتدفعه إلى مراجعته حساباته. فكيف إذا كانت هذه الأدوات تُشكّل كابوساً له. من هذا المنطلق، انصرفت روسيا بُعيد إخفاقها العسكري في سوريا، وتفجر التوتر مع تركيا إلى إعادة إحياء علاقاتها بأكراد البلدين، فساعدت مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الكرديين في السيطرة على مزيد من الأراضي المتاخمة للحدود التركية، قبل أن تصاحب هذا الدعم بطرح تقسيم سوريا على أساس فيدرالي. حتى أن بعض التقارير تحدّثت عن عرض الروس الاعتراف الرسمي بروج أفا بعد فتح مكتب لحزب الاتحاد في موسكو.
ورغم العلاقات التي تربط الفصائل الكردية السورية بحزب العمال الكردستاني المحظور داخل تركيا، فإن اتهام أنقرة لموسكو مؤخراً بدعم الحزب وتزويده بصواريخ وأسلحة مضادّة للطائرات عن طريق العراق وسوريا، أضاف بعداً أكثر خطورة لخلاف البلدين، إذ إن الحزب يخوض حرباً مع الدولة التركية في جنوب شرق البلاد منذ انهيار وقف إطلاق النار في يوليو/تموز الماضي، وبالتالي، لا يمكن فهم أي دعم روسي له، إن صحت الاتهامات التركية، إلاّ بمثابة إعلان حرب على الأتراك.
في ظل هذين الملفين المعقدين للغاية، يضاف إليهما قضايا خلافية أخرى لا تقل أهمية بطبيعة الحال، فإنه من المستبعد أن يؤتي الحراك الدبلوماسي التركي ثماره من دون خطوة روسية إلى الوراء في المسألة الكردية على وجه التحديد. ذهاب بوتين بعيداً في دعم الأكراد بشكل يتخطى هدف استفزاز تركيا إلى تعريض حدودها الجنوبية لخطر يمس أمنها القومي، عقّد الخلاف أكثر.
السلطان والقيصر يعيان تماماً أهمية إنهاء القطيعة بينهما وما يُشكّله ذلك من حاجة ملحة وضرورية لكلا الطرفين، لكنّ تعليق الآمال فقط من دون مراجعة الحسابات يجعل من المصالحة أمراً مستبعداً. والأهم أن الإخفاق في معالجة الخلاف التركي الروسي ومنع تصاعده في ظل التطورات الدراماتيكية المرتقبة في الشمال السوري، يضعنا حتماً أمام صيف مشتعل، سيكون من الصعب بعده إعادة ترميم ما هدّمته حرب الوكالة في سوريا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.