– عادت النهضة التونسية إلى الحياة السياسية مع ثورة الربيع العربي باعتبارها أحد فصائل الإسلام السياسي الذي تأسس على يد الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بفهم جديد للإسلام وكامتداد طبيعي لحركة الإصلاح الديني الأفغاني والشيخ رضا وعبده.
– الفهم الجديد الذي قدمه الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، للإسلام في هذه المدرسة يقوم على الشمولية والعالمية التي وضح مفهومها الإمام في كتابه الرسائل؛ حيث يقول: (نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعاً، ويفتي في كل شأن منها ويضع له نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوفاً أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس. فهم بعض الناس خطأ أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية، وحصروا أنفسهم وأفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور)، ويضيف: (لكنا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه فهماً فسيحاً واسعاً ينتظم شؤون الدنيا والآخرة، ولسنا ندعي هذا ادعاء أو نتوسع فيه من أنفسنا، وإنما هو ما فهمناه من كتاب الله..).
– أتت ثورة الربيع العربي بالإسلاميين إلى الحكم ولم يستمروا، فخلال فترة وجيزة استطاعت القوى المضادة أن تستوعب أدوات ووسائل الثورة وتوجهها إلى صدر الحركات الإسلامية التي كان واضحاً أنها لا تمتلك الخبرة الكافية في إدارة الشأن العام، ولا تمتلك مشروعاً واضحاً لتسقط أحلام الربيع وتخرج الإسلاميين من الحكم.
حركة النهضة بقيادة الغنوشي استطاعت أن تمتص ضربات القوى المضادة في تونس وخارجها، وتقوم بعملية مراجعة عميقة لفكرها وسيرتها، تقدم اجتهاداً جديداً يضاف إلى مسيرة الحركة الإسلامية التجديدية، وليس مضاداً لها، وهو اجتهاد أحدث ردود فعل كبيرة مع وضد هذا التوجه، خاصة في هذه المرحلة الحرجة من مسيرة الحركة الإسلامية التي يرى البعض أنها في طريقها للأفول والاستبدال وفق سنن الاستبدال والدفع الحضاري.
– دعوة الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة بفصل الدعوي عن السياسي، ربما ليست جديدة في مسيرة الحركة الإسلامية العملية، بل إن أنجح التجارب هي تلك التي حدث فيها هذا الفصل التخصصي العملي، كتجربة العدالة والتنمية في تركيا، والعدالة في المغرب، إلا أن الجديد أن النهضة اليوم تقدمه كاجتهاد جديد في مسيرة الحركة وتوجه عام في المرحلة المستقبلية.
– إن أبرز ما تقدمه حركة النهضة اليوم في اجتهادها الجديد في مسيرة الحركة الإسلامية، الفهم التخصصي لشمولية الإسلام كمرجعية للحركة والانتقال الفكري من العالمية الأممية إلى المشروع الوطني الذي يستوعب كل مواطني الوطن، وتقديم مشروع واقعي وقريب من الشعب؛ حيث أكد قيادات الحركة في أكثر من مرة، وعلى رأسهم الشيخ مورو، أن من أخطاء الحركة الاسلامية السابقة الخطاب العالمي على حساب الخطاب الوطني، وأخيراً للتأكيد على أهمية الانتقال من حلم الخلافة كنموذج تاريخي غير قابل للتكرار إلى التأكيد على أهمية الدولة بمفهومها الحديث ذات السيادة الوطنية وحدودها الإقليمية كمشروع قائم وناجز، والعمل ضمن أطرها وسلطاتها.
– أعتقد أن النهضة عامة والشيخ الغنوشي وحركة النهضة اليوم يقدمون اجتهاداً فلسفياً ورؤية جديدة قديمة لثورات الربيع العربي التي انطلقت بلا هدي فلسفي، وبقيم غير مشبعة بالبحث في واقع عربي تجنبها ويلات هذا الاندماج المدمر الذي كانت الحركة الإسلامية نفسها إحدى ضحاياه في مصر وسوريا واليمن، فالخطاب الديني المشبع بالفتاوى الفقهية كانت حاضرة في تعبئة الرأي العام الشعبي ضد حركات الإسلام السياسي خاصة، والثورات العامة، وبالتالي تجريد الدولة العميقة من أهم أدواتها وتجنيب المنطقة العربية والإسلامية ويلات هذا الخلط العنيف التي تقدمه حركات الجهاد الجديدة كتنظيم الدولة الذي قدم الإسلام بصورة عنيفة.
– إن الفصل بين الدعوي والسياسي يؤسس لمرحلة تخصص جديدة في العمل السياسي تجنب الحركة الإسلامية حماقات الدعاة وبعض الفقهاء الذين يتصدون لكثير من القضايا السياسية التي تستوجب علماً دقيقاً وتخصصاً عميقاً في السياسة، يستوعب أبجديات العمل السياسي، كما أنه يحرر المؤسسة الدعوية من استغلال السياسي المستبد لمنح شرعية لجرائم بحق الشعوب ويمنحه الفرصة للانتقال من الخطاب الفردي إلى المؤسسي الذي يستوعب تخصصات العصر وقضاياه الدقيقة، وفق شروط علمية رصينة، وإن كان لم يجب حتى هذه اللحظة عن أسئلة كثيرة متعلقة بالحدود الفاصلة بين الدعوي والسياسي في الشأن العام ومفردات عملها.
– أعتقد أن غياب الموجه والفيلسوف الذي افتقدته ثورات الربيع العربي منذ قيامها أفقدها البوصلة في خضم الصراع السياسى الذي يتفوق فيه قوى الثورة المضادة، ما جعلهم في زمن قياسي يقومون باستيعاب ما حدث واستغلال نفس أدوات الثورة الشباب والعالم الافتراضي، ويعودون إلى الواجهة بقوة، راكبين نفس الخطاب الديني وينادون بنفس المطالب، في ظل سوء إدارة للملف السياسي والصراع السياسي القائم على المغالبة ومصالح الناس الدنيوية بعيداً عن المثاليات والوعود بالآخرة، وهو ما كشف عن تضخم الجانب الدعوي للإسلاميين في هذا الصراع على مستوى الخطاب والمنازلة.
– يعزز خطاب الغنوشي اليوم نموذجان متناقضان، إيران الدولة الطائفية التي تجمع بين الدعوى والسياسي والمال التي أوصلت آلية الداخل والخارج على حد سواء، وتركيا الدولة العصرية التي فصلت الدعوي عن السياسي والمآلات التي حققتها لشعبها وللعالم، إضافة إلى واقع دموي دمره هذا الخلط الذي مهد لظهور الجماعات الجهادية في العراق وسوريا واليمن على أساس طائفي يخلط الدعوي (الديني) بالسياسي.
– أعتقد أن الضجة التي صاحبت اجتهاد النهضة ترجع في بعض منه إلى بقايا المعركة الشرسة على الهوية بين العلمانية والإسلامية التي لم تنتهِ وعادت بالظهور مع ثورات الربيع العربي وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم؛ حيث انحاز كثير من أنصار التيارات الليبرالية والاشتراكية إلى صف الدولة العميقة وأدواتها المستبدة لمنع التيار الإسلامي من الاستمرار، بحجة أنهم يهددون هوية الدولة العلمانية والليبرالية وبالتالي، اعتبر هذا التيار أن اجتهاد النهضة انتصار لهذا الجناح على حساب تصور الحركة الإسلامية، وهو تصور خاطئ يعمق من حالة التوهان التي تعيش فيها الحركة الإسلامية في هذه المرحلة، والتي تحتاج إلى حالة من الاجتهاد الإبداعي القادر على إحداث نقلة في التصور والممارسة.
– لن ينتهي صدي هذا الاجتهاد، ولن تتوقف ردود الفعل حالية، وسيراقب الجميع نتائجها على الأرض، فهو ليس اجتهاداً نهائياً ناجزاً بقدر ما هو إلقاء لحجر الاجتهاد في بِركة الجمود التقليدي الذي أصاب الحركة الإسلامية وأوقفها عند الحدود الحالية التي جعلتها مثقلة بجوانب الحياة؛ حيث يتطلب العمل السياسي نوعاً من خفة الحركة لمواجهة الموقف والتجديد بعيدة عن القيود والأحمال الثقيلة التي تعاني منها الحركة الإسلامية على الجميع المساهمة في التقييم والإثراء والاجتهاد، فنحن أمام اجتهاد سياسي وفكري عميق يؤسس لمرحلة قادمة من الانطلاق والتمكين السياسي ووضع مداميك جديدة للتعايش على أرضية التنوع السياسي المرن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.