ما مِن لبنان ولا مهجر مِن دون البنك

لا مبالغة في القول أن فكرة "الجمهورية اللبنانية" بُنيت على حرّيتين، الحرية السياسية والحرية الاقتصادية. وتقليدياً، يميل معظم اللبنانيين إلى التعبير عن تمسكهم بهاتين الحرّيتين

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/22 الساعة 04:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/22 الساعة 04:15 بتوقيت غرينتش

يستغرب غير اللبنانيين الأهمية التي يوليها اللبنانيون للبنوك، إذ يمنحونها مكانة أكبر من وظيفتها المالية والاقتصادية، حتى لتبدو ركيزة أساسية في تعريف بلدهم.

وهذا صحيح إلى حد بعيد، فعندما اختلف اللبنانيون على كل شيء، وأطاحوا عمرانهم واجتماعهم في حروب مريرة ومدمرة، تجنبوا المسّ ببعض أهم مؤسساتهم، منها على وجه الخصوص القطاع المصرفي، الذي ظل يعمل بكفاءة وسلاسة من غير تعثر. والمفارقة هنا، أن شارع المصارف الشهير في وسط بيروت، هو الشارع الوحيد الذي جنبه المتقاتلون الدمار وتجنبوا قصفه تماماً طوال 15 عاماً.

ولأن جميع المتنازعين حيّدوا المصارف، وأحياناً كثيرة حرسوها ورضخوا لمطالبها، بقيت تعمل بغض النظر عن الظروف الأمنية، وظلت قوية ومتطورة وآمنة، ولم تؤثر فيها الأزمات المالية، ولا انهيار قيمة العملة المحلية في الثمانينات، ولا الهزات الاقتصادية العالمية أو الاقليمية. كانت دوماً في أحلك الفترات مثابرة على الربح والنمو والتوسع.

هي واحدة من المعجزات القليلة التي أنقذت لبنان من التبدد والانهيار، ليس فقط لأنها مؤسسات ناجحة، بل لأن اللبنانيين كانوا شديدي الحرص على بقائها وديمومتها لما تمثله في وجدانهم ووعيهم بأنها صنو بقاء دولتهم وكيانهم.

لا مبالغة في القول أن فكرة "الجمهورية اللبنانية" بُنيت على حرّيتين، الحرية السياسية والحرية الاقتصادية. وتقليدياً، يميل معظم اللبنانيين إلى التعبير عن تمسكهم بهاتين الحرّيتين، بحكم العادة أو بمصاف البداهة. والتظهير الأول للحرية السياسية نراه فعلياً في الصحافة والإعلام، أما الحرية الاقتصادية فهي بمثابة عقيدة راسخة تترجم مبادئها أولاً في توظيف الأموال بالمصارف الخاصة، المؤهلة منذ قرن على الأقل لاستقبال الودائع الضخمة، المحلية والعربية، وللاستثمار والتمويل والإقراض.

ثم أن توصيف لبنان "سويسرا الشرق" كشعار سياحي قد يبدو مبالغاً به اليوم، وكشعار سياسي لتبرير الدويلات الطائفية (الكانتونات) بدا دوماً فاشلاً، لكنه كان صحيحاً إلى حد بعيد كملجأ مالي محصن بـ"السرية المصرفية" والقوانين المناسبة، وكمركز آمن للمضاربة والودائع وإدارة الحسابات السرية والمَحافظ الاستثمارية والوساطة والسمسرة والأنشطة الأخرى.

ومن أوائل الذين عقدوا المقارنة بين لبنان وسويسرا هو ميشال شيحا، المثقف والمفكر والمنظّر الأهم للكيان اللبناني و"الأب الروحي" للدستور.. والصحافي البارز والمصرفي الناجح، أحد ورثة "بنك فرعون وشيحا"، الذي تأسس العام 1876 "كأول شركة محلية تتولى تمويل اقتصاد الحرير الذي كان إلى ذلك الحين حكراً على البيوتات المالية الفرنسية" ("صلات بلا وصل" – فواز طرابلسي).

ليس اعتباطاً جمع شيحا لصفتي الصحافي والمصرفي، بل هو تجسيد عملي لفكرته عن لبنان الحرّيتين السياسية والاقتصادية، وسعى من خلال تأثيره الكبير في كتابة الدستور، أن يضمن تشريعات ترسخ أيديولوجية ليبرالية للدولة اللبنانية، فيقول في كتابه "لبنان في شخصيته وحضوره": إن مستقبل لبنان منوط أساساً بالحرية، حرية في العقيدة وحرية في العمل". وفي جملة أخرى شهيرة لميشال شيحا عن معنى لبنان ودوره: "إما أن نعمل بحرية على تصدير الفكر والخدمات، على نحو منظور أو غير منظور، وإما أن نكفّ عن تصدير أي شيء". يبدو هذا القول منتمياً إلى زمن الاقتصاد التكنولوجي والمعولم. اقتصاد المعرفة والمعلومات والتبادل السريع للأموال العابر للقارات واقتصاد الخدمات بمعناها الواسع. وعلى كل حال، لا يتردد المؤرخ اليساري فواز طرابلسي في القول: "يتبين شبه كبير بين منظومة شيحا الفكرية وبين النيوليبرالية المتعولمة" (صلات بلا وصل).

هذا المصرفي والدستوري والبرلماني والصحافي والمفكر السياسي، كان واحداً ممن صاغوا أسس الجمهورية، وتشكل مقالاته حتى اليوم المرجع الأهم لفهم "الصيغة اللبنانية" في شكلها الأرقى وأكثرها دقة.

العودة إلى ميشال شيحا، تتيح لنا فهماً جليّاً للعلاقة العضوية بين القطاع المصرفي والكيان اللبناني، كعلاقة "الفكر والخدمات". وبمعنى أصح، التطبيق السياسي لليبرالية واقتصاد السوق. وفي سياق أبعد، تاريخي، نجد أن جبل لبنان تحصّل على بعض الاستقلال بعد تمايزه عن السلطنة العثمانية واقتصادها، في لحظة اتصاله بالتجارة العالمية مع انتاج الحرير بشقيه: الزراعي (تربية دود القز) والصناعي (الكرخانات). ومن انتاج الحرير وتصديره، تأسس بنك فرعون وشيحا وأمور أخرى: الطرق المعبدة، المرفأ، خروج المرأة إلى العمل (القرن التاسع عشر)، البرجوازية المدينية التجارية..

قام لبنان على هذه الأسس، التي تضاف إليها الجامعات والمدارس الحديثة، وبمرجعية دائمة: الحرّيتان السياسية والاقتصادية.

أهم تحول سياسي – اقتصادي بعد الاستقلال، كان غداة ما سمي "حوادث" 1958، حين تنازع على لبنان، في خضم الحرب الباردة وحركات التحرر في العالم الثالث ومن بينها الحركة القومية العربية (الناصرية والبعثية)، "حلف بغداد" الأميركي الأطلسي من جهة، وتيار الوحدة العربية في سوريا ومصر، وانتهى التنازع إلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب" القريبة من أفكار ميشال شيحا المحبذة للغرب وللمتوسطية من غير قطيعة مع العالم العربي وبالأخص سوريا: "لبنان لا يعيش بطرق مقطوعة مع الجوار".

هذا الحدث السياسي ترافق مع حدث اقتصادي بالغ الأهمية سيترك أثراً عميقاً على لبنان: بدء تدفق فائض الأموال النفطية العربية إلى البنوك اللبنانية، الوحيدة الجاهزة إقليمياً لاستقبالها. رساميل وودائع ضخمة ستتخم بها المصارف التي ستجيد استثمارها محليا. وفي أعقابها، سيشهد لبنان زمناً استثنائياً من البحبوحة والازدهار والعمران، معتمداً على تصدير المعرفة والخدمات (بما فيها الصحافة) ومركزاً مالياً وسياحياً.. وثقافياً بطبيعة الحال.

بهذا المعنى، كان للمصارف دور حيوي في "صنع" لبنان الحديث، وتوطيد أيديولوجيته الليبرالية، وصوغ تقاليد وتشريعات ونظام ضرائبي جاذبة للاستثمارات ومشجعة على سياسات الانفتاح والتجارة الحرة وتطوير التعليم واقتصاد المعرفة والخدمات.

ما من شيء كرهه اليساريون في لبنان أكثر من صفاته وأدواره ووظائفه الموصوفة أعلاه. وأشد ما كرهوا فيه هو النظام المصرفي. أدركوا عن صواب أن مصارف لبنان تمثل خير تمثيل النظام الرأسمالي المعولم. ولذا فإن أولى "مغامراته" الثورية الشهيرة كانت العام 1973، حين أقدمت عصبة من اليسار الثوري المتطرف على عملية سطو استعراضية على "بنك أوف أميركا" وطالبوا بمبلغ عشرة ملايين دولار أميركي لـ"المساهمة في الحرب ضد الإمبريالية، وبإطلاق سراح مناضلين عرب من سجون بعض الدول". وكان رد السلطة عنيفاً انتهى بمقتل علي شعيب، الذي كتب فيه عباس بيضون قصيدته الشهيرة "يا علي" وغناها مارسيل خليفة.

أما "المغامرة" الثانية فكانت على يد مجموعة مقربة من "الجبهة الديموقراطية" الفلسطينية، بالسطو على البنك البريطاني للشرق الأوسط العام 1976، إبان السنة الثانية للحرب، حين استولوا على مبلغ 25 مليون جنيه استرليني. ويقال أن ياسر عرفات استشاط غضباً لهذه الفعلة التي تهدد ثقة المصارف المحلية والعالمية ببيروت، ما ينذر بعواقب وخيمة على النظام المصرفي اللبناني، الذي يدير ليس فقط ثروات عربية بل أيضاً أموال "منظمة التحرير الفلسطينية" نفسها.

ما كرهه هذا اليسار، كرهته الأنظمة العربية "الاشتراكية" وحسدته، إلى أن حلت النكبات أو تغيرت الطبيعة الاقتصادية لهذه الأنظمة، فحين قررت مصر، في عهد مبارك، فتح أسواقها للمصارف الخاصة، سارعت البنوك اللبنانية إلى فتح فروعها في القاهرة والمدن الأساسية. أما العراق وإقليم كردستان ما بعد صدام حسين، فقد وجدا في المصارف اللبنانية التي فتحت فروعها هناك، ضالتهما إلى الصلة بالأسواق المالية العالمية وبالنظام المصرفي الدولي وخدماته.

وعندما قرر بشار الأسد اعتماد بعض مظاهر الليبرالية الاقتصادية لقوننة نهب الزمرة الحاكمة وتشبيك أموالها وثرواتها بالنظام الرأسمالي العالمي، وجد ضالته خصوصاً في المصارف اللبنانية. ففي آخر تقرير للمنتدى الإقليمي حول إعادة إعمار سوريا، يذكر أن المصارف اللبنانية تمتلك في سوريا 120 فرعاً من أصل 240 فرعاً مصرفياً داخل هذا البلد، أي أنها تملك نصف الفروع الموزعة على مختلف المناطق. وفي سياق الحديث الاستباقي عن خطط إعادة بناء سوريا، يقول الأمين العام لجمعية مصارف لبنان، مكرم صادر، أن البنك الدولي اقترح على المصارف اللبنانية سابقاً تنفيذ عملية إعادة تأهيل، و"قد بوشر بتنفيذها عملياً، لكنها لم تصل إلى خط النهاية". وبمعنى آخر، فإن المصارف اللبنانية ستلعب دوراً أساسياً في تمويل إعادة الإعمار في هذا البلد، وتأمين قروض بمئات المليارات للدولة السورية المستقبلية، مع ما يعني ذلك من دور لوجيستي وهندسي ضخم منوط بلبنان في هكذا مشروع.

شدد ميشال شيحا في نظرياته حول الاقتصاد (والهوية والدور) على لبنان وعلى المهجر. وورثة "مغامرات" اليسار، الممانعين، وعلى رأسهم "حزب الله" هم الذين لا يطيقون ذاك الـ"لبنان والمهجر"، البنك والفكرة، إلى حدود التفجير.

بقي أن نشير أخيراً إلى نبوءة ميشال شيحا التي قالها العام 1951، محذراً من رمي لبنان في خريطة الشرق الأوسط، مشدداً على أن هذه التسمية تليق بالداخل الآسيوي، ومن الأفضل الانحياز إلى خريطة الشرق الأدنى التي تحفظ للبنان انتماءه "المتوسطي" وصلته بالغرب، منبهاً أن الشرق أوسطية تضعنا في مجال واحد مع الفرس: "هم يدانون جبال القفقاس، فبالكاد قيض لهم بعد داريوس، أن يشاهدوا البحر المتوسط".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد