كفرت بهم وبالوطن الذي جعلوه مطية يركبونها؛ ليحققوا مآربهم الشخصية وليزدادوا نفوذاً وثراءً، كفرت بالوطن الذي فصَّلوا حبه على مقاس السلام الوطني ورفع العَلَم وضرب الأشعار للتصبب بجمال عيونه وملامحه، وكأن حُب الوطن فقط مجرد طقوس عشق وغرام، كفرت بالوطن الذي اختزلوا تاريخه وتراثه بالثوب الفلسطيني الذي ترتديه صبايا هذا الزمن ليؤدين رقصات الدبكة على أنغام موسيقى الوطن، وهن يحملن الجرة أو الغربال، ويتمايلن أمام رجال الوطن في مهرجانات "حب الوطن"، كفرت بالوطن الذي يفرضون عليه لوناً واحداً فقط وطيفاً واحداً لا غير، ويا ويح من يخالف لونهم المفروض!
بركاتهم حلت علينا؛ فوطننا تقلص بقدومهم، فاتفاقياتهم طويت الأرض للمغتصب وحرمت صاحبها خيراتها، أما أشجار زيتوننا فقد تآكلت أعدادها لتحل المستوطنات اللقيطة مكانها، اقتلعها الغاصبون وأحرقوها وزرعوا الغرقد على أثرها بمباركتهم.
أما أبناء الوطن فقد جعلوا منهم طابوراً من المخبرين يقدمون التقرير إثر التقرير عن الزميل والرفيق والأخ وابن العم والصديق مقابل فتات من النقود، أو ربما بطاقة جوال؛ حفاظاً على الوطن المبتدع من الخارجين عن الصف الوطني الذين يتربصون بهذا الوطن شراً.
ليس هذا فقط؛ فقد طالت بركتهم كل جزء من حياتنا ومستقبلنا، ركَّبوا لنا عدَّادات كهرباء الدفع المسبق، وعدادات مياه تحسب علينا كم استهلكنا من مياهنا، ولو استطاعوا تركيب عدادات تحسب علينا كم استنشقنا من هوائنا لما توانوا.
وأكثر من ذلك بكثير؛ فقد حاصروا أحلامنا وطموحاتنا داخل نفوسنا؛ فجعلوها من المحرمات، وفي الوقت نفسه أباحوا الموبقات والمهالك.
انقلبت الموازين في وجودهم وتغيرت القيم والمعتقدات؛ فالحلال أضحى محرماً، ومن يفعله يخرج من رحمتهم "مذموماً مدحوراً"، والحرام أضحى مباحاً بل يثاب فاعله ويدخل جنتهم الجحيمية.
الكيل بمكيالين هو أبرز ميزاتهم؛ فمن لونه من لونهم، وتراه يفكر بطريقتهم، ولديه استعداد فطري إلى "البصم" على كل ما يصدر منهم؛ هو المقرب المحبب إليهم، هو من تفتح له الوظائف وجميع المؤسسات والمصالح أبوابها، وتأتي المساعدات والمنح الدراسية جاهدةً ساعيةً في البحث عنه وعن أبنائه، وإذا أخطأ لا يهم؛ فالخطأ يمكن إصلاحه، والكسر يمكن جبره، جميعهم يقفون معه يؤازرونه ويساندونه، إذاً لا مشكلة هناك، ما دام لجميع الأمور حلول، أما من لونه مختلف عنهم، ويغرد خارج سربهم؛ فكل الموازين تتغير باقترابه، وتتبدل عندما يأتي دوره ويقع تحت رحمتهم؛ فلا سند ولا دعم ولا إمدادات ولا تسامح، أما الخطأ فقاتل لا يمكن التغاضي عنه؛ فهو بداية الطريق الذي فيه هلاك الوطن.
أرجوكم ألا تفهموني خطأ؛ فأنا لا أكره الوطن، كلا، بل ما يُعنيني هو حب وطني والحرص عليه والخوف عليه من المصائب التي ألمت به الواحدة تلو الأخرى، وتتابعت كقطع الليل المظلم، حتى كادت تُسكت أنفاسه وتقضي عليه؛ فأنا كما حال كثيرين مثلي أحب وطن الانتماء والهوية، وطن الأخلاق والقيم، وطناً يحفظ حق أبنائه وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلف تفكيرهم ولونهم؛ فالوطن الذي يجري حبه في عروقي هو غير ذاك الوطن الذي أوجدوه لنا، ورسموه محصوراً في خريطة تشبه مثلثاً، رأسه يتجه إلى الغرب، آسف على الذي سقط سهواً مني، بل أقصد أنه اقتطعت مساحة صغيرة من الوسط تشبه رأس عجوز فاغراً فمه ضاحكاً ببلاهة، سموها الضفة الغربية، وفي شريط صغير حصروا جزءاً آخر صغيراً من الوطن سمّوه قطاع غزة.
أحب الوطن عروسه قدسٌ تختال بين أشجار زيتوننا، قبة الصخرة تاج يزين رأسها، قدسٌ آمنة، لا يقلقها أمر ولا يزعجها مزعج، يحيط بها العلماء والفقهاء وطلبتهم من كل حدب وصوب.
أحب الوطن كما يجب أن يكون، لا كما جعلوه هم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.