الدعوي والديني “2”- العلمانية والدينية

ونتيجة للفصل بين الكنيسة والدولة، تصبح الدولة حرة في تقدير مدى الحاجة للاعتراف بدين آخر غير دين الأغلبية. ولا يتعلق ذلك برفض أو قبول اعتناق الأشخاص لدين معين، وإنما بمدى القبول بتكوين مؤسسات دينية قياساً على مؤسسة الكنيسة، فتُصبح الدولة ملزمة بتوفير أماكن للعبادة لمعتنقي الدين المعترف به وقبول إنشاء مدارس دينية لأتباعه؛ وهو الالتزام الذي لا يُثقل كاهلها إزاء الأديان غير المُعترف بها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/18 الساعة 02:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/18 الساعة 02:55 بتوقيت غرينتش

اللغة طائر يحمل الأفكار على جناحيه، فإما وصل بها صافية لمتلقيها أو عانت جراء السفر فتصل شائهة متعبة.
عانت أفكارنا من عمليات التلفيق الواسع التي انتابت حركة الترجمة في القرن التاسع عشر، التي غلب عليها الانطباع دون التدقيق، فجرى إسقاط المفاهيم الشائعة غير الدقيقة على مصطلحات مستقرة ففقدت معناها.

ومن الأخطاء غير المغتفرة، وضع كلمة دين في اللغة العربية مرادفا لكلمة religion في اللغات ذات الأصل اللاتيني؛ بينما المضمون الفكري مختلف تماماً. فبينما تنحصر دلالات الكلمة اللاتينية ومشتقاتها في الجانب الشعائري والعقائدي، فإن الكلمة العربية ترسم صورة مختلفة قد تتسع أو تضيق عن هذا المعنى..

فأول دلالات كلمة الدين تتراوح بين ارتباطها بمعاني الحكم كالخضوع أو الإخضاع أو المحاسبة ومنها جاء تسمية يوم الدين؛ أو معاني التشريع الإلهي كقول الله تعالى "شرع لكم من الدين"، أو القانون الوضعي كقوله في سورة يوسف {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله}، بمعنى قانون الملك.

وبالتالي فإن العبادات والعقائد تمثل جزءاً من دلالة كلمة الدين، لكنها لا تستغرقها ولا تستنفد معانيها.
ولذلك أثر مهم في فض الاشتباكات الفكرية التي تفترض أن ما يقوله طرف يتوافق أو يتناقض مع ما يقوله آخر، بينما قد يكون العكس تماماً هو الصحيح، إلا أن الوسائل اللغوية هي التي تختلف في أسلوبها لنقل المعاني.
فالدين في الفكر الغربي يشمل في أهم سياقاته الفكرية المؤسسة الدينية، وهي الكنيسة في الديانة المسيحية، والتي لا تُمثل معبداً فقط وإنما سياج معنوي يجمع رابطة المؤمنين وبوابة ينفذ منها الشخص إلى تلك الرابطة عن طريق طقس ديني مقدس هو التعميد.

ولا غنى للدين في هذا التصور الغربي عن رابطة مؤسسية تهيمن على حياة الفرد من الميلاد بالتعميد إلى الزواج بالتقييد إلى الوفاة، وفي خلال ذلك تفرض نموذجاً أخلاقياً لا يمكن للفرد أن يفلت منه وإلا خرج عن رابطة المؤمنين.

بينما لا يحتمل الدين في الفكر الإسلامي هذا التفصيل، بل يعتبره نقيضاً للدين، فلا يجوز أن تحتكر مؤسسة دينية تمثيل الدين أو فرض فهمها له أو محاسبة الناس على مدى التزامهم بالمانيفستو الأخلاقي الذي تقره من وجهة نظرها.

وأي مظاهر من ذلك وُجدت في عالمنا الإسلامي هي من الدخن الذي أدخله حكام مستبدون، حاولوا أن يتخذوا من الدين وسيلة للرقابة على شعوبهم وفرض الانقياد لهم لا الانقياد لله.

فمجرد وجود أشخاص منقطعين للدين يحددون ما هو الحلال وما هو الحرام اعتبره الإسلام شركاً بالله، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- رد على تساؤل كتابي سابق أشهر إسلامه عندما سمع قول الله تعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، فقال ما كنا نعبدهم! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أليس كانوا يُحلون لكم ويحرمون عليكم فتطيعون؟ قال الرجل: نعم؛ فقال: تلك عبادتهم.

كلام شديد الوضوح في رفض احتكار الدين من أي جهة أو مؤسسة، وتركه بين دفتي الكتاب والسنة لكل آدمي تصل إليهما يداه؛ أما دور المؤسسات الدعوية فينحصر في حمل ذلك وتقريبه للناس دون السعي لفرض مفاهيم أي داعية على عموم الخلائق، وإلا وقع في المحظور صراحة.
ولذا انقضت ألف وخمسمائة عام لم يعرف فيها الإسلام لا مؤسسة دينية، ولا متحدثاً باسمه؛ فهو دين للعالمين من حيث حق الكافة في أن تتناوله وأن تصل إليه وأن تُطالعه وأن تعتنقه وأن تناقش تصوراته؛ ولا يُطالب أحد بحفظه إذ تكفل الله بذلك "وإنا له لحافظون".

فإذا انتقلنا إلى تحديد معنى العلمانية في الفكر الغربي فإننا ننتقل لمشكلة أخرى من مشكلات الترجمة اللغوية التي تمحو الدلالات الفكرية.
فالعلمانية لا علاقة لها بمعادة الدين، فحتى كلمة لايسيزم الفرنسية مصدرها كلمة λαϊκός اليونانية وتعني غير المشتغل بالدين وليس المعادي له؛ فالأمر يتعلق بتمييز بين اللائكي والكهنوتي le laos et le cleros، وليس بين الديني وضد الديني.

العلمانية جزء في البناء العقائدي الغربي نشأ بمقياسين ورؤيتين متمايزتين، لكنهما لا تنفصلان عن بعضهما. فمنذ أن نقلت الأناجيل عن المسيح عليه السلام "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، بنى الغرب فكرته على أساس وجود سطلة زمنية تمثلت في الإمبراطور الروماني ومجلس الشيوخ وحكام الأقاليم، وسلطة دينية تمثلت في البابا والمجلس الكنسي والكرادلة في الأقاليم. فنحن أمام خطين متوازيين في الإدارة وفي القضاء منذ أقرت الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديانة رسمية.

اقتضى ذلك أن يتوزع أتباع الرب وخدمته بين العالمين المتوازيين، فبينما القساوسة والكرادلة يخدمون الرب داخل منظومة الكهنوت فإن العلمانيين يخدمونه من خارج هذه المنظومة. وما حركة الإصلاح الديني إلا استعادة لهذا الفصل. فبعد أن تغوّلت الكنيسة على السلطة الزمنية، أصبحت جهة تعيين الأباطرة وعزلهم، جاء الإصلاح الديني ليعيد الوضع إلى أصله.
ولا علاقة لذلك بما يسمى بالفصل بين الدين والدولة، فالدين يبقى فاعلاً في مجمل العلاقات الاجتماعية، وهو ما يفك طلاسم في عقل البعض بسبب وجود أحزاب مسيحية تُدافع عن الفصل بين الكنيسة والدولة؛ فهي لا تشعر أنها تقوم بأمر يُناقض الدين الذي تجعله مرجعية لها بل هو دفاع عن صحيحه.

ويمثل تشريع الفصل بين الكنيسة والدولة الصادر سنة 1905 في فرنسا الكاثوليكية، أساساً مُجمَعاً عليه بين كل الفرقاء السياسيين، وهو ما انعكس في الدساتير الفرنسية باعتبار العلمانية واحدة من أسس النظام السياسي.

وإذا كان الدين شأن الكنيسة، فمن المنطقي أن تصبح الدولة حيادية إزاءه، فلا يجوز لها أن تفتي أو أن يكون لها مفتٍ في مسائل الدين، ولا أن تتدخل بتعيين الممثلين الدينين أو عزلهم، وهو ما جر أنماطاً أخرى تُعد نماذج للحيادية؛ بما فيها التزام الدولة بعدم دعم المؤسسات الدينية وترك مساحة واسعة لتلك المؤسسات لتدبير مواردها المالية.

فالعلمانية هي معادلة لإدارة المنطقة الوسط بين سُلطتين حتى لا تتغول أيهما على الأخرى، ولا يُمكن الاستغناء عن أي منهما في العقل الغربي.
ونتيجة للفصل بين الكنيسة والدولة، تصبح الدولة حرة في تقدير مدى الحاجة للاعتراف بدين آخر غير دين الأغلبية. ولا يتعلق ذلك برفض أو قبول اعتناق الأشخاص لدين معين، وإنما بمدى القبول بتكوين مؤسسات دينية قياساً على مؤسسة الكنيسة، فتُصبح الدولة ملزمة بتوفير أماكن للعبادة لمعتنقي الدين المعترف به وقبول إنشاء مدارس دينية لأتباعه؛ وهو الالتزام الذي لا يُثقل كاهلها إزاء الأديان غير المُعترف بها.

ومفاد ذلك أن العلمانية لا تُناقض الدين في العقل الغربي، كما أن الدين في الفكر الإسلامي غير مُضطر لتبني المفاهيم العلمانية لغياب الحاجة إليها، إذا جاءت كافة النظم العلمانية وليدة لحقيقة وجود مؤسستين متوازيتين، أحدهما دينية والأخرى دنيوية؛ بينما لا يعرف الإسلام ذلك، بل يُحرم تكوين أي مؤسسة دينية، وبالتالي فإن عدم تدخل الدولة في الدين، بمعنى عدم احتكاره أو استعماله لتبرير سياستها أو لأجبار الشعب على القبول بتصرفاتها أو بالخضوع لها هو أحد المفاهيم الإسلامية التي يُحاول المستبدون الالتفاف عليها عن طريق اصطناع مؤسسات دينية حكومية.

فالصراع بين ما هو علماني وما وهو ديني في بلادنا أشبه بمن فقد ماله في حارة مظلمة فذهب إلى شارع مضيء يبحث عنه. فلا يوجد صراع ديني علماني في الغرب، فالعلمانية جزء من مكونات الرؤية الدينية الغربية؛ كما لا وجود لأي أساس للفصل بين المؤسسة الدينية والدنيوية لدينا، إذ لا يسمح الإسلام بوجود مؤسسة للدين.

أما أولئك الذين يستعملون الدعوة في الصراع السياسي إنما يستدعون -بقصد أو بدون قصد- العلمانية كمعادلة تمنح الأطراف طمأنينة بأن الدعوة لن تكون ميزة لطرف في مواجهة الآخرين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد