حققت لائحة "قرار طرابلس"، المدعومة من وزير العدل المستقيل -المدير العام لقوى الأمن الداخلي سابقاً- أشرف ريفي، مفاجأة من العيار الثقيل، وذلك باكتساحها العدد الأكبر من المقاعد في مجلس بلدية طرابلس.
وجاءت هذه النتيجة بعد انتهاء الجولة الأخيرة من الانتخابات البلدية التي جرت في الشمال في 30/05/2016، والتي كان قد سبقها ثلاث مراحل انتخابية في باقي المحافظات اللبنانية.
وقد حصل هذا الفوز بوجه اللائحة المدعومة من تحالف سياسي عريض، جمع بين عدد كبير من القوى والشخصيات السياسية التي لها إمكانيات مالية ضخمة، والتي كانت حتى الأمس القريب على خصومة عميقة وتناحر كبير فيما بينها، لا سيما داخل الطائفة السنية، وأهمها رئيسا الحكومة السابقان سعد الحريري (تيار المستقبل) ونجيب ميقاتي.
أما العبر المستخلصة من هذا الفوز، فيمكن إيجازها بالنقاط التالية:
1) فوز لائحة سياسية من المجتمع المدني
صحيح أن لائحة قرار طرابلس منبثقة من المجتمع المدني، وأنها مؤلفة من التكنوقراط الذين لا ينتمون إلى الأحزاب السياسية، إلا أن هذه اللائحة تبنت خيارات سياسية واضحة وجاهرت بها صراحة (ثوابت 14 مارس/آذار).
فلم تقع لائحة "قرار طرابلس" في نمطية خطاب "الصواب السياسي" الذي يقع فيه عادة ناشطو المجتمع المدني، والذي يصور السياسة على أنها "فساد" لا يجب "التلوث" به.
كما أنها ابتعدت عن ديماغوجية الأدبيات "البورجوازية – البوهيمية" التي تتفشى في المجتمع المدني، والتي تعتبر أن كل الخيارات السياسية سيان؛ لأنها كلها سيئة، والتي غالبا ما ينتج عنها لا مبالاة بالسياسة واعتقاد خاطئ بإمكانية فصل الإنماء عن السياسة.
تماهت لائحة "قرار طرابلس" مع النبض السياسي للشارع الطرابلسي، فاستطاعت أن تكتسح العدد الأكبر من المقاعد البلدية في عاصمة الشمال. وذلك بعكس لائحة "بيروت مدينتي" مثلاً، المنبثقة أيضاً من المجتمع المدني، ولكن التي نأت بنفسها عن السياسة، فكانت النتيجة -إلى جانب أسباب أخرى- أن فشلت "بيروت مدينتي" في خرق لائحة تحالف السلطة ولو بمقعد واحد في بيروت.
2) التمسك بثوابت 14 آذار
عكس فوز لائحة "قرار طرابلس" المزاج العام في هذه المدينة الذي ما زال بأغلبيته متمسكاً بما يعرف بثوابت 14 آذار. تتشكل هذه الثوابت من كوكبة من المبادئ الوطنية، أهمها سيادة الدولة على جميع أراضيها، وضرورة حصر قرار الحرب والسلم في يد الدولة وحدها، وسحب السلاح من جميع المنظمات المسلحة، بما فيها حزب الله.
انتهج تيار المستقبل في السنوات الأخيرة سياسة تقوم على المساومة على هذه المبادئ السيادية، وتقديم التنازلات المتكررة والمجانية للدويلة (حزب الله) على حساب الدولة. وقد حاول هذا التيار تبرير هذه السياسة بشعارات الاعتدال، والوسطية، والتوافق -لا سيما عندما يكون توافق للمحاصصة مع ألد خصومه في الحكومة أو في اللوائح الانتخابية- وضرورة الحفاظ على البلد تطبيقاً لمقولة "نحن أم الصبي".
ومن ضمن هذه التنازلات مثلاً، رشح الرئيس سعد الحريري النائب سليمان فرنجية -وهو من رموز قوى الثامن من آذار- لرئاسة الجمهورية. وقد شكل هذا الترشيح نقطة الافتراق بين الوزير أشرف ريفي -وهو في صلب الحالة الحريرية في لبنان- وتيار المستقبل.
يبدو جلياً من خيار الناخب الطرابلسي أنه ليس مقتنعاً بديباجة تيار المستقبل التبريرية وبتنازلاته المتكررة، وأنه فضل التصويت لصالح من بقي متمسكا بثوابت 14 آذار.
3) المظلومية السنية
إن فشل اللائحة المدعومة من الأوليغارشية (أصحاب الثروات) في الانتخابات البلدية التي جرت في أفقر مدينة على حوض البحر الأبيض المتوسط (طرابلس) يدل على أمرين أساسيين:
أولا: على استياء الطرابلسيين الكبير من الإهمال والحرمان المتمادي التي تعاني منه مدينتهم بالرغم من وجود أصحاب الثروات الضخمة فيها.
ثانياً: على أن المعركة الانتخابية لم تكن مجرد معركة تقليدية لتحديد أحجام بين زعامات وبيوت سياسية، بل تخطتها لتصبح معركة خيارات إستراتيجية ووجودية داخل الطائفة السنية التي تنتمي أكثرية كبيرة من الطرابلسيين إليها.
فعلى وقع اتهامات موجهة من قبل أكثر من جهة للمناطق المحسوبة على الطائفة السنية بأنها بيئة حاضنة للإرهاب، تتنامى مظلومية سنية قوامها شعور بوجود ازدواجية في المعايير وتمييز في المعاملة من قبل الدولة، وذلك في ظل حكومة يتمثل فيها تيار المستقبل.
فالدولة غالباً ما تبدو وكأنها لا ترى إلا بعين واحدة، لا سيما في تطبيق القوانين، خصوصاً فيما يتعلق بمواضيع الأمن (الميليشيات، السلاح المتفلت، المربعات الأمنية، التوقيفات التي تطول مدتها دون أي محاكمة).
ولعل طرابلس -إلى جانب عرسال- المدينة حيث هذه المظلومية هي الأكثر تجليا. يعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب، أبرزها الاشتباكات المتكررة التي حصلت في السنوات الأخيرة بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن، وتفجيرا مسجدي التقوى والسلام اللذان ضربا هذه المدينة سنة 2013 دون توقيف من كان وراء التفجيرين حتى الآن.
راكمت سياسة "الصيف والشتاء تحت سقف واحد" غضباً عارماً بشكل عام، واستياء كبيراً من تيار المستقبل بشكل خاص، تُرجم عقابياً في صناديق الاقتراع في طرابلس.
4) مستقبل تيار المستقبل
هل تعني نتائج انتخابات طرابلس أن تيار المستقبل، كما يحلو لبروباغندا الإعلام الممانع أن تردد، قد انهار وانتهى؟
هنا لا بد من الإشارة أولاً إلى مفارقة مضحكة – مبكية، وهي أن الإعلام الممانع يشمت بخسارة تيار المستقبل في طرابلس، في حين أن حرية الترشح وخوض الانتخابات تبقى عملياً محدودة جداً في مناطق السيطرة الانتخابية لأحزاب الممانعة المسلحة. فعلى الأقل، وهذه نقطة تسجل لتيار المستقبل، تستطيع حالة سياسية شعبية صاعدة -كالوزير أشرف ريفي- أن تُرشح لائحة بوجه تيار المستقبل، وفي منطقة محسوبة عليه، وأن تفوز بشكل كبير.
أما الجواب عن السؤال الآنف الطرح فهو: طبعاً لا. صحيح أن تيار المستقبل يمر بأزمة ثقة شعبية، على ما تدل عليه عدة مؤشرات: نتائج انتخابات طرابلس، والامتناع العقابي عن التصويت الذي حصل بنسب عالية جداً في مراكز الثقل الشعبي لهذا التيار (بيروت وطرابلس)، والفارق البسيط في الأصوات الذي أتاح الفوز للائحة التي يدعمها في بيروت.
إلا أنه، بالمقابل، لا يمكن أن نتناسى أن لوائح هذا التيار استطاعت الفوز بكامل أعضائها، بالرغم من كل شيء، في مدينتين أساسيتين، أي في بيروت وصيدا.
يبدو أن الناخب لم يغلق الباب كاملاً بوجه تيار المستقبل. وكأنه، بالمحصلة، أراد توصيل رسالة استياء مفادها أن على هذا التيار وقيادته -إن أرادوا أن يستردوا شعبيتهم كاملة، وأن يستعيدوا ثقلهم السياسي على سابق عهده- أن يعودوا إلى الثوابت السيادية وإلى الوضوح في الخيارات الوطنية.
فهل يعودون؟