في مواجهة حكم سلطوي لا يتردد في الانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان والحريات في بر مصر، لا ترتب المواقف الرمادية فوائد أخلاقية أو مجتمعية أو سياسية تذكر. خلال السنوات الثلاثة الماضية، منذ الانقلاب على الإجراءات الديمقراطية في صيف 2013، ابتعد نفر صغير من الأصوات الليبرالية واليسارية عن التوجه الغالب بين أقرانهم لتأييد الحكم السلطوي والتحالف معه والمراوحة بين إنكار وتبرير المظالم والانتهاكات الممنهجة التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية.
وفرض الابتعاد عن الالتحاق بالركب السلطوي، والذي كان قد أسس له قبل ٣٠ يونيه / حزيران 2013 برفض الخلط بين الدعوة إلى تظاهرات شعبية عنوانها تفعيل الآلية الديمقراطية المتمثلة في إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وبين المطالبة بتدخل الجيش في السياسة لإزاحة رئيس منتخب واستغلال التظاهرات الشعبية لتمكين المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية من الهيمنة مجددا على شؤون الحكم وصناعة القرار، لحظة فرز حقيقية في دوائر الليبراليين واليسار لم تبلغ بعد محطاتها النهائية.
من جهة، لم يستقر إلى اليوم إدراك الاستحالة المطلقة للمزج بين الفكرة الديمقراطية وبين فهم للعلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة والحكم يستند إلى تبرير احتكار الأخير لمؤسسات وأجهزة الدولة، واختزالها في إرادة الحاكم الفرد، وتشويه أدوات قوتها الجبرية عسكرية وأمنية وقضائية بطغيان القمع وتغييب العدل وسيادة القانون.
فليس لمثل هذا الاحتكار سوى أن يرتب استتباع المجتمع وإلغاء حيويته وفاعليته المودعة في تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وإخضاع المواطن وتجريده من الإمكانيات الفعلية للاختيار الحر وللمبادرة الفردية والسعي الذاتي إلى التقدم عبر إعمال المعرفة والعلم والعقل.
ليست مصر باستثناء على هذه القاعدة التي تثبتها تواريخ البشر المعاصرة، شرقا وجنوبا كما غربا وشمالا. وليس نشر الفكرة الديمقراطية اليوم بين أهلها وفي ربوعها بممكن ما لم تستقر في الضمائر والعقول أولوية حق المواطن في الاختيار الحر، وحق المجتمع في الحرية والإنسانية واستقلالية تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وواجب الدولة في العدل والتزام سيادة القانون والتداول والمحاسبة في مواجهة خطر استبداد الحكم.
وليست الأصوات ديمقراطية الهوى بين الليبراليين واليسار بمغادرة لمواقع وخانات الوهن الراهنة ما لم تقننع بكارثية تبرير إخضاع المواطن وتمرير حصار المجتمع، وإبعاد مؤسسات وأجهزة الدولة عن مهامها الأصلية واختزالها في إرادة الحاكم الفرد باستدعاء "لحالة الاستثناء" أو لخطاب "الضرورة"، تلك التي وظفها البعض في صيف 2013 لتبرير لحظة الانقلاب على الديمقراطية، ويستخدمها البعض الآخر اليوم في الدفاع عن الإجراءات السلطوية وفي تبني مقايضات شمولية مالها الفشل كالاستقرار في مقابل الحق والأمن في مقابل الحرية، ويستغلها البعض الثالث لتجديد دماء حكم الفرد. ولسنا، بالتبعية، بقادرين على العودة بمصر إلى مسار تحول ديمقراطي ما لم نصنع من جهة الكثير من الروابط الإيجابية بين الإنقاذ الفعلي للوطن وبين الانتصار للمواطن وللمجتمع وللدولة العادلة القوية على الاستبداد والطغيان والظلم، ونفك من جهة أخرى دون تردد أو مواربة أو رمادية الارتباط المتوهم بين الإنقاذ الفعلي للوطن وبين قبول الاستبداد وحكم الفرد والادعاء المتكرر بحضور استثناءات تحتمه أو ضرورات تفرضه.
لا أنكر أن الإدانة العلنية لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات تتصاعد اليوم بعد صمت طال أمده، تماما كما تعلو أصداء المطالبة بإحياء السياسة كنشاط حر وتعددي ومقاومة هيمنة الأمني على فعل الحكم وسلوك مؤسسات وأجهزة الدولة في سياق المظالم المتراكمة والشواهد المتتالية لإطلاق اليد القمعية في بر مصر. لا أنكر ذلك، وأزعم كوننا إزاء تحولات إيجابية جوهرها تخليق مساحات إضافية في الفضاء العام للدفاع عن بعض مضامين العدل والحرية وسيادة القانون دون معايير مزدوجة.
إلا أن السمات الديمقراطية للحراك الراهن تظل مراوغة لأن بعض المشاركين فيه يمينا ويسارا تورطوا في الماضي القريب في الترويج لحديث "الاستثناء" ولخطاب "الضرورة"، وفي تبرير إخضاع المواطن وحصار المجتمع والخروج على مسار التحول الديمقراطي واختزال الدولة في حكم الفرد تحت يافطات "إنقاذ الوطن"، ومازال باديا رفضهم لممارسة النقد الذاتي. بعبارة بديلة، ما لم يقر الليبراليون واليسار معرفيا وفكريا وسياسيا بكون الإنقاذ الفعلي لمصر ما كان له وليس له أن يتأتى دون إقرار حق المواطن في الاختيار الحر وحق المجتمع في الاستقلالية وحتمية تطبيق الدولة الوطنية لمبادئ العدل وسيادة القانون والتداول والمحاسبة لكي تكتسب وتحافظ على قوتها ومنعتها ولكي تكف عن انتهاك حقوق وحريات المواطن وتمتنع عن حصار المجتمع، لن يؤسس بفاعلية للسمات الديمقراطية لحراك إدانة انتهاكات الحقوق والحريات والقمع والمطالبة بإحياء السياسة.
كذلك يصعب تصور أن الحراك الراهن سيتطور في اتجاهات راسخة الارتباط بالفكرة الديمقراطية ما لم يعد المشاركون فيه بصرامة نقدية النظر في مرتكزات رؤيتهم للعلاقة بين المواطن وبين الحكم والحاكم. في دوائر الليبراليين، ينبغي إعادة الاعتبار لحق المواطن في الاختيار الحر ولاحترام مشاركته في إدارة الشأن العام عبر الآليات والإجراءات الانتخابية وغيرها دون تحقير من وجهة الاختيار ومضمون المشاركة إن باستدعاء نظريات "الزيت والسكر" أو من خلال إخضاع الفقراء ومحدودي الدخل وغير المتعلمين وأهل الريف لاستعلاء مدعي الوعي من ميسوري الحال والطبقات الوسطى والفئات المتعلمة والمدينية. يتعين أيضا إعادة اكتشاف الأفضلية الأخلاقية والأولوية المجتمعية والسياسية لحماية حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة – منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية – والقطاع الخاص إزاء تغول مؤسسات وأجهزة الدولة، ومقاومة السعي المستمر بين النخب الاقتصادية والمالية للتحالف مع الحكم والحاكم نظير شيء من الحماية وشيء من الامتيازات ليس لنمط منحها ومنعها أبدا أن يستقر. ومن إقرار كون حق المواطن في الاختيار الحر واستقلالية المجتمع هما مع إجراءات العدالة الاجتماعية ضمانات نشوء وتماسك طبقات وسطى قوية تبحث عن المبادرة الفردية بهدف الترقي وتتجه إلى النشاط في التنظيمات الوسيطة والقطاع الخاص لإنجاز التقدم العام وتطالب بخدمات تعليمية واجتماعية وثقافية ذات جودة دون انتظار لمؤسسات وأجهزة الدولة تدير لها مسارات حياتها وأدوارها، إلى التسليم بحقيقة أن إنجاز المواطنة المناهضة للتمييز وفصل الدين عن قضايا الحكم والسلطة والسياسة وإخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية لرقابة السلطات العامة المنتخبة ليس لها كعناصر أساسية للمجتمع الحديث وللدولة الوطنية الحديثة أن تتطور وتستقر في مصر إلا في سياق تحول ديمقراطي شامل وأن انتظار أن يأتي بأي منها حكم الفرد هو وهم متهافت تدحضه كل تواريخ البشر المعاصرة وتواريخنا المصرية أيضا.
أما في دوائر اليسار، فإعادة النظر في العلاقة بين المواطن وبين الحكم والحاكم تستدعي الاعتراف بأمرين أساسيين. يتمثل أولهما في سحب الشرعية الأخلاقية والمجتمعية والسياسية الممنوحة عن اليد المستبدة والجبرية والقامعة للدولة إزاء المواطن وعن فرضها الحصار على المجتمع وتنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وذلك بإدراك أن تغول الدولة ومن وراءها حكم مستبد وحاكم فرد وتدخلها في كافة جوانب حياة المواطن ووجود المجتمع إن باسم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفقراء أو العدالة الاجتماعية أو مكافحة الفساد أو إنجاز التنمية أو لإنقاذ الوطن ليس له إلا أن يصنع من مؤسسات وأجهزة الدولة وحشا يروع المواطن والمجتمع بالقمع بينما يخفق في امتلاك أي من الأسباب الفعلية للقوة وللمنعة وللتقدم. دولة اليسار المتغولة هي نقيض الأمل في الدولة الوطنية العادلة القوية، ونقيض الفكرة الديمقراطية طالما لم تحضر مبادئ العدل وسيادة القانون وتداول السلطة والمحاسبة وتستقر الضوابط الناتجة عنها وعن حق المواطن في الاختيار الحر والمجتمع في الاستقلالية. الأمر الثاني الذي يتعين على اليسار المصري الاعتراف به هو أولوية الصياغة الديمقراطية دستوريا وقانونيا وسياسيا للعلاقة بين المؤسسات العسكرية والأمنية من جهة وبين المؤسسات التنفيذية المدنية والسلطة التشريعية المنتخبة والسلطة القضائية المستقلة من جهة أخرى لكون كل تنصل من الصياغة هذه يمثل دعوة لاستمرار حكم الفرد وطغيان القمع وتشويه أدوات قوة الدولة الجبرية العسكرية والأمنية والقضائية.
من غير ذلك، ستواصل لحظة الفرز إعمال مفاعيلها في دوائر الليبراليين واليسار دون نتائج نهائية تكسب حراك إدانة الانتهاكات الراهن سمات ديمقراطية واضحة، وتحد من أزمة الفكرتين الليبرالية واليسارية التي رتبها التحالف البائس مع الحكم السلطوي في بر مصر.
هذه التدوينة نشرت في جريدة القدس العربي
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.