العنف والسِّلم في مسار حركة النّهضة…من التأسيس إلى الثَّورة التُّونسية “3”

يظهر من تحليل مسيرة الحركة الإسلامية التي دخلت العمل السياسي وتسمت بتسمية الاتجاه الإسلامي أن العنف بدأ يتسرب لمنهج الحركة في التغيير، خاصة أن الحركة بدأت تعيش تجربة القمع الممنهج من طرف النظام البورقيبي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/10 الساعة 01:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/10 الساعة 01:47 بتوقيت غرينتش


الجزء الأول من هذه التدوينة يمكن الاطلاع عليه بالضغط هنا، الجزء الثاني يمكن الاطلاع عليه بالضغط هنا

ثالثاً: منهج التغيير عند حركة الاتجاه الإسلامي وسياسة القمع البورقيبي

أدركت الحركة الإسلامية بعد مخالطة المجتمع التونسي والحركات المعارضة للنظام ضرورة توسيع نطاق نضالها ليشمل العمل السياسي، وذلك أن الحركة في مرحلتها الأولى "الجماعة الإسلامية" لم تصل إلى فهم واقع المجتمع التونسي ومشاكله العميقة بتركيزها على الدعوة وإهمالها لحال الطبقة الشغيلة والأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب.

يرى عبد الباقي الهرماسي أن الحركة الإسلامية في بداية مشوارها كان يبدو عليها الاهتمام بالجانب الأخلاقي الروحاني مع إهمال المشاكل الاجتماعية للمجتمع. لكن وفي داخل الحركة بدأ المناضلون يستفيقون عن غياب الإسلام عن الصراعات الاجتماعية الحقيقية، وعلى غربتهم التي تفصلهم عن اهتمامات الفئات الشعبية.

كما يؤكد الهرماسي أن خطاب الحركة الإسلامية عند بداية مشروعها كان إسلامياً أيديولوجياً مثالياً لا يلامس الواقع، حيث اقتصر على انتقاد المجتمع ومهاجمة الغرب على أن المجتمع المسلم وقع فريسة له. ويعتبر الهرماسي هذا الخطاب غير قادر على وضع الحلول اللاّزمة لأزمة المجتمع كما أن المسائل الكبرى التي طرحتها الحركة الإسلامية على مدى عقد كامل من التأسيس هي المسائل نفسها التي غذّت الأصولية الإسلامية منذ ظهور الإخوان المسلمين في مصر أثناء الثلاثينات كما يرى الهرماسي. ومسائل البحث الكبرى التي تلخَّص فيها العمل الإسلامي في نظر الهرماسي هي:

"* ابتعاد الإسلام عن قيادة شؤون الحياة هو سبب الأزمة. وأن العودة إلى الإسلام هي وحدها الكفيلة بالخروج منها.

* العالم الإسلامي والمجتمعات المسماة إسلامية هي "جاهلية" ما دامت لا تصرف شؤونها "الحاكمية أي الحاكم الإلهي المطلق" (الهرماسي، "الإسلام الاحتجاجي في تونس"، من الحركات الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي، ص 265).

إن المسائل الكبرى التي رأى الهرماسي أنها مغذية للأصولية الإسلامية هي نفسها التي جعلت الحركات الإسلامية تتعامل مع غيرها من أبناء المجتمع على الرغم من اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم بعقلية استعلائية، فإذا كان الإسلامي إسلامياً عندما ينتمي إلى الحركة الإسلامية، فما موقع الطبيب المسلم والمهندس المسلم والمعلم المسلم وغيرهم من نخب المجتمع إن لم ينتموا للحركة الإسلامية؟!.

لا شك أن حركة النهضة في تونس حاولت تدارك الأمر ومعالجة الأزمة لكن ليس بالمستوى المطلوب.

حلّت بالحركة الإسلامية قناعة توسيع الخطاب من الطبقة البسيطة والشباب ليشمل الطبقة العاملة والنقابات وذلك بالخوض في مشاكل الطبقة الشغيلة واستقطابها، كما أدركت الحركة أن الطريق إلى توسيع نشاطها ليشمل العمل السياسي لا يكون إلا بالاستظلال تحت مظلة قانونية تعطي الحماية والشرعية للأنشطة السياسية التي تعالج عمق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل المجتمع التونسي.

ولقد كان لتيار التديّن العقلاني دور محوري في تطوير خطاب الحركة الإسلامية في تونس، أما عن دور النظام في تحول الحركة فقد أعلنت الدّولة التونسية في أبريل/نيسان 1981م بالسماح بتكوين أحزاب سياسية.

ويذكر الهرماسي أن إقامة سوسيولوجية حركة اجتماعية تستمد معقوليتها من كونها استجابة لمجتمع يعيش التحولات هو هدف الحركة، وأن تجنيب الحركة الإسلامية التقيُّد بالنصوص الأيديولوجية من صنف نصوص الإخوان كان من بين أهم العوامل التي ساعدت في دخول الحركة العمل السياسي، وأن أهم عوامل تسييس الحركة تتلخص في ما يلي (الهرماسي، "الإسلام الاحتجاجي في تونس"، الحركات الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي، ص 266-267):

1- اشتداد الأزمة الوطنية التي سببتها سياسة الباب المفتوح.

2- الصدام الدموي بين الاتحاد العام للشغل والدولة في يناير/كانون الثاني 1978.

3- التأثير الذي ترتب عن الثورة الإيرانية.

في 5 ديسمبر/كانون الأول 1980م خطط قيادات الحركة الإسلامية للاجتماع في مقر مكتب جريدة الحبيب، لكن الاجتماع المزمع إقامته تم إلغاؤه لشك أعضاء الحركة أن الشرطة علمت بالاجتماع. اعتقلت الشرطة عضوين من الحركة وصادرت وثائق هامة لها، عندها أدرك النظام أن هناك عملاً إسلامياً سرياً يجري دون علمها، ما كان من الحركة إلا أن سرّعت في إعلانها عن مشروعها السياسي وذلك لتتجنَّب ردة فعل النظام الذي قد يشهِّرُ بالحركة ويتهمها بأنها حركة سرية خطيرة. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1980م حجزت بعض القيادات الطلابية من الحركة الإسلامية مع غيرها من الطلبة عميد كلية ومجموعة من الإداريين وتم تهديدهم والمختبر كله بالتفجير، إذا لم يتم سحب أعوان النظام المحاصرين للكلية والمهددين باقتحامها واعتقال آلاف الطلبة لاستخراج المحرّضين ضد النظام.

وفي ظروف أحداث نوفمبر وديسمبر من عام 1980م تم عقد مؤتمر استثنائي قدَّم فيه راشد الغنوشي تقريراً عن وضع الحركة ونشاطها. خرج المؤتمر الاستثنائي بتعيين أعضاء مجلس الشورى الذين ترأسهم الشيخ الغنوشي والذي كانت مهمته الإسراع في إنجاز مشروع الإعلان عن الحركة السياسية الإسلامية الجديدة.

لم يجد مشروع الحركة الإسلامية السياسي ترحيباً من الصحافة التونسية فلم تنشر البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي الوليد السياسي للجماعة الإسلامية، كما أن جريدة لوموند الفرنسية نشرت مقالاً تحريضياً مشحوناً بالأكاذيب والسّموم وتهويلاً للخطر الذي يشكله المتطرفون الإسلاميون في رأيهم.

لا شك أن تأسيس الحركة الإسلامية لكيانها السياسي المتمثل في حركة الاتجاه الإسلامي كان له دور كبير في الضغط على النظام وخلق المنافسة التي لم يكن ينتظرها النظام مع الحركة الإسلامية. كانت ردة فعل النظام قاسية ضد الحركة الإسلامية ما جعل الحركة تعيش مرحلة من الاضطهاد والظلم اللَّذين تولَّدت عنهما ردات فعل على مستوى القيادة والقاعدة الشعبية للحركة، حيث إن التباين ظهر من موقف القيادة التي كانت تتبنى السلم وتنبذ العنف والقاعدة التي كانت تنزلق أحياناً إلى العمل المسلح.

في لقاء مع الوزير السابق وعضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة، يرى عبد اللطيف مكي أنه وفي ثورة الخبز سنة 1984م كان لحركة الاتجاه الإسلامي دور قيادي. غير أن الحركة حافظت على سلمية المظاهرات واستمراريتها ما جعل النظام يراجع أسعار الخبز ما كان له أثر كبير في زيادة شعبية الحركة. ويذكر محمد القلوي في لقاء معه أن مجموعة كان يطلق عليها مجموعة الضاوي انفصلت عن حركة الاتجاه الإسلامي كانت قد تبنت العمل المسلح في سنة 1986م. وقد كان يقود تلك المجموعة أحمد لزرق المتأثر بفكر عبد الله عزام، الذي تم إعدامه من طرف نظام بورقيبة. كما يؤكد محمد القلوي أن هذه المجموعة كانت قد انفصلت واستقلت عن الحركة؛ لأنها لا تخدم أهداف واستراتيجية الحركة. وفي سنة 1987م وبعد اعتقال الشيخ راشد الغنوشي ومنعه من إلقاء الخطب في مسجده قام الشباب بمسيرات واجهها النظام بقسوة فكانت ردة فعل الشباب الإسلامي القيام بأعمال عنف كحرق السيارات. كما قام في تلك الفترة شابان في حلق الواد وشابان في قابس بحرق أئمة كانوا يهاجمون الحركة ويتهمونها بأن منهجها منهج خوارج توفي منهم شخص واحد.

يظهر من تحليل مسيرة الحركة الإسلامية التي دخلت العمل السياسي وتسمت بتسمية الاتجاه الإسلامي أن العنف بدأ يتسرب لمنهج الحركة في التغيير، خاصة أن الحركة بدأت تعيش تجربة القمع الممنهج من طرف النظام البورقيبي. لكن وفي حوارات مع قيادات الحركة الإسلامية، تنفي تلك القيادات صلتها بتلك الأعمال وتؤكد مسؤولية القاعدة الشعبية التي لم تكن تستشير وترجع للقادة في أعمالها تلك. فما كان من عنف فهو ردات فعل فردية لمن كانوا يعانون من بطش النظام وظلمه.

"يُتبع"

المراجع:
راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993).
راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1989م).
محمد عبدالباقي الهرماسي، "الإسلام الاحتجاجي في تونس"، الحركات الإسلامية المعاصر في الوطن العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989م).
محمد القلوي، مقابلة شخصية، تونس، حاوره الطيب كمال عيساوي، 01/06/2015.
عبد اللطيف مكي، مقابلة شخصية، تونس، حاوره الطيب كمال عيساوي، 04/06/2015.

Francois Burgat, The Islamic Movement In North Africa, (U.S.A: The Center for Middle Eastern Studies at The University of Texas, 1993). P: 193.
John L. Esposito and John O. Voll, Makers of Contemporary Islam, (New York : Oxford University Press, 2001). P : 100.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد