تناولنا في الجزء الأول من هذه التدوينة نشأة الحركة الإسلامية في تونس ومراحل تطورها أما اليوم فنتناول محور مختلف
ضُربت اللَّغة والثقافة والدِّين في تونس من طرف نظام بورقيبة ومن قبله الاحتلال الفرنسي وتراجَعَ دور العلماء والمؤسسات التي كانت تعمل على دحر الاستعمار الفرنسي فكريا وثقافيا فعاشت تونس مرحلة من الركود الحضاري الإسلامي على مستوى مؤسساتها كجامع الزيتونة وغيره. كردة فعل لهذا الواقع الحضاري المزري وفي حوالي سنة 1969م ولدت فكرة مشروع إصلاحي يسعى لإعادة إحياء الهوية الإسلامية لتونس تحت تسمية الجماعة الإسلامية. اجتمع مجموعة من الشباب التونسي لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة يقودهم المفكر الشاب وصاحب رحلة الشرق والغرب راشد الغنوشي، فكان الهمّ الموحِّد والنّية المشتركة في تحرير تونس وتخليصها مما آلت إليه من وضع اجتماعي وسياسي وثقافي هما سرُّ تحريك همّة وعزيمة الشباب الطامح للتغيير والإصلاح.
انطلق العمل الإصلاحي على شكل حلقات دعوية في مساجد تونس تسعى لتوعية المجتمع التونسي من خطر اتباع الغرب وغرس العقيدة الصحيحة بدل العقائد الخرافية. ولقد لعبت المرأة دورها في الحراك الدعوي بإنشاء حلقات نسائية مثل حلقة سيدي يوسف لتوعية المرأة التونسية بدينها وما تحتاجه من دروس في التفسير والحديث والفقه. ثم امتد مشروع الحلقات النسائية ليعم البلاد وتشهد المرأة التونسية مشاركة فعّالة في المشروع الإسلامي التونسي. ولقد تطور العمل الدعوي ليتحول إلى ندوات في الكليات والثانويات التونسية.
تفاعلت الحركة الإسلامية في انطلاقتها كما يذكر حميدة النيفر مع حركات وتوجهات مختلفة، كجماعة التبليغ، والطريقة المدنية الصوفية، مع تعاون محدود مع بعض الزيتونيين والسّلفيين القادمين من المشرق. كما يثبت راشد الغنوشي أن منهج التغيير الذي تبنته الحركة الإسلامية في انطلاقتها هو منهج جماعة التبليغ.
كان لسياسة الدَّولة البورقيبية ضد المؤسسات الإسلامية وتعطيل دور المساجد خاصة جامع الزيتونة وغيرها من المدارس دور في ظهور الحركة الإسلامية. كما شهدت تونس في تلك المرحلة ما اعتبرته النخبة العَلمانية إصلاحا للوضع الاجتماعي والثّقافي للمجتمع التّونسي. فتمّ بناء نظام للأحوال الشّخصية، واندثرت الوظائف التقليدية للمجلس الشرعي، ما هيَّأ الأرضية لبروز المشروع الإسلامي كمنافس للمشاريع العَلمانية الأخرى.
اقتصرت استراتيجية التغيير والإصلاح في تونس عند انطلاق الحركة الإسلامية على العمل الدعوي دون العمل السياسي، ما كان له أثر كبير في تفادي الصدام المباشر بين الحركة الإسلامية ونظام بورقيبة. لكن وعلى الرغم من النشاط المحدود للحركة، شهدت الأخيرة ردة فعل من بعض المنتسبين لها كانت وليدة الحماس المبالغ فيه والموضوع في غير محله، فقد رُفضت الممارسات المنافية للأخلاق الإسلامية على العلن بأسلوب حماسي عاطفي غير حكيم. ويذكر الغنوشي أن ردة فعل الحركة كان يغلب عليها الطابع الحماسي في تعاملها مع المجتمع التونسي المنحل والمتأثر بالحضارة والفلسفة الغربية.
لكن الملاحظ أن الحركة تعاملت مع المجتمع دون الدولة فلم يكن هناك إنكار على النظام يستند إلى مؤسسة منظمة تمثل الحركة، بل كان مجرد ردات فعل يصرخ بها أبناء الحركة في وجه المجتمع. يقول راشد الغنوشي عن ردة فعل الحركة المتشبعة حماسا:
"فلا عجب أن تجد الحركة الإسلامية نفسها في انطلاقتها في السبعينات تواجه مجتمعا منحلا يستمد فلسفة انحلاله من البورقيبية فتُدِين ذلك المجتمع إدانة جذرية مطلقة ولم تسلم تلك الإدانة نتيجة ما يصاحب ردّ الفعل عادة من حماس عنيف وقلة تبصر وإمعان في النصوص للتمييز بين الأصيل والدّخيل في الإسلام..".
(الغنوشي، المرأة المسلمة في تونس: بين توجيهات القرآن و واقع المجتمع التونسي، ص 92-93).
إن الظاهر من كلام الغنوشي أن الحركة الإسلامية عند انطلاقتها كانت تنقم على المجتمع المنحل والبعيد عن قيمه. فكان التَّماس بينها وبين المجتمع من جهة النهي والسعي للإصلاح أشد منه مقارنة بتعاملها مع النظام.
ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة العمل الدعوي الغير سياسي الذي كانت تمارسه الحركة. فحالة الانحلال التي وصل إليها المجتمع وانعدام المظلة السياسية جعلا الحركة الإسلامية تواجه المجتمع دون النظام. كما كان من الطبيعي أن تكون سياسة التغيير في الحركة يغلب عليها العنف والحماسة خاصة وأن الغنوشي يعتبر أن الحركة الإسلامية قد تأثرت بكتابات الإخوان وسيد قطب وكادت تنحصر في ذلك.
يرى الغنوشي أن الصبغة الحماسية التي اكتسبتها الحركة الإسلامية عند انطلاقتها كانت نتيجة لاحتكاك الحركة بكتابات الإخوان خاصة سيد قطب الذي كان يمثل الخطاب الحماسي الناقم على المجتمع في نظر الغنوشي. لكن وعلى الرغم من ذلك لم تشهد الحركة الإسلامية في تونس وعند انطلاقتها فكرة الخروج على الحاكم والسعي لإقامة الدولة الإسلامية بل كانت المواجهة محدودة مع المجتمع والوسيلة مقتصرة على الإنكار العنيف الممتلئ حماسة.
ويرجع السبب الرئيس في عدم وقوع صدام مع النظام في أن الحركة الإسلامية لم تتبنى العمل السياسي بعد، بل كانت مقتصرة على الدعوة فحسب.
وفي حوار مع القيادي في حركة النهضة، يذكر محمد القلوي أن في سنة 1972م كان أول تماس بين الحركة الإسلامية والنظام وذلك في خرجة من خراجات الحركة على طريقة جماعة التبليغ. غير أن محمد القلوي لا يذكر أي صدامات أو عنف واجهت به الحركة قوات النظام عندما فرّقت الجماعة واعتقلت بعض قياداتها. كما يذكر أيضا محمد القلوي أن في سنة 1978م حدثت صدامات في الجامعة بين النظام والطلبة الإسلاميين الذين رفعوا شعار ومطلب "نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في المجتمع" وكان من أهداف الحركة الإسلامية أن يُسمح لها بعقد الاجتماعات.
مرَّت المرحلة الأولى للحركة الإسلامية الحديثة في تونس "الجماعة الإسلامية" دون أي صدام مع السلطة. ويرجع السبب في ذلك أن الحركة الإسلامية عند تأسيسها تعاملت مع المجتمع دون النظام.
فالخطاب الدعوي كان موجه نحو المجتمع التونسي المضروب في هويته الإسلامية ولم تدرك الحركة بعد ضرورة توسيع خطابها ليشمل العمل النقابي والخوض أكثر في واقع المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لم تكن الحركة الإسلامية وقتها تحمل هم تغيير النظام بل كان همها تغيير المجتمع وإصلاحه إلى أن أدركت الحركة ضرورة العمل السياسي وأسست حركة الاتجاه الإسلامي. كان تجنب الصدام مع النظام هو الاستراتيجية المتبعة في مرحلة الدّعوة، ويمكن التعليق على منهج التغيير في تلك المرحلة من تاريخ الحركة الإسلامية أنه كان دعويا سلميا لم يشهد عنفا ضد النظام.
يتبع.
المراجع:
حميدة النيفر، "شهادات عن سنوات التأسيس"، من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين الإسلام السياسي في تونس، (دبي: مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2011).
راشد الغنوشي، المرأة المسلمة في تونس: بين توجيهات القرآن و واقع المجتمع التونسي، (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1988).
راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع،1989م).
راشد الغنوشي، من الفكر الإسلامي في تونس، (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1992).
فيديو سلسلة مراجعات الغنوشي. (2005). حاوره عزّام التميمي. 14/10/2014، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=lR9BuwdUihc&list=PLFE8BCC06B3C8C7A4
محمد القلوي، مقابلة شخصية،حاوره الطيب كمال عيساوي، تونس، 01/06/2015.
محمد عبد الباقي الهرماسي، "الإسلام الاحتجاجي في تونس"، الحركات الاسلامية المعاصر في الوطن العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989م).
الهاشمي الحامدي، تقديم لكتاب راشد الغنوشي، من الفكر الإسلامي في تونس، (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1992م).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.