إنها الحلقة الثالثة من مسلسل الإثارة والتشويق: "لبنان يواجه العالم".
فبعد أن استبسل إقليمياً -تارة في جامعة الدول العربية، وتارة في منظمة التعاون الإسلامي- في الامتناع عن التصويت على قرار إدانة إيران بسبب الاعتداءات على البعثة الدبلوماسية السعودية على أراضيها، ها هو لبنان يرفع معدلات التشويق إلى مستويات هيتشكوكية عالمية.
فجأة قرر لبنان مواجهة تقرير أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، وهو بعنوان: "بأمان وكرامة: التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين"، والمقدم للجمعية العامة للأمم المتحدة يتاريخ 21 أبريل/نيسان 2016، "في إطار التحضير للاجتماع العام الرفيع المستوى بشأن التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين المزمع عقده في 19 سبتمبر/أيلول 2016".
ينقسم هذا التقرير إلى خمسة فروع تمتد إلى 38 صفحة (بنسخته العربية) وتحتوي على 106 فقرات، ويتضمن مجموعة من التوصيات بالحرص على "ضمان حقوق الإنسان للاجئين والمهاجرين وأمانهم وكرامتهم، ومنع التمييز ومكافحة كراهية الأجانب التي يتعرضون لها في كثير من الأحيان".
وفي حين أن معظم التوصيات جاءت لصالح لبنان، لا سيما لناحية الدعوة إلى اعتماد اتفاق عالمي بشأن تقاسم المسؤوليات عن استضافة اللاجئين على نحو أكثر إنصافاً، وإلى "الاعتراف بالمساهمات السخية للغاية التي تقدمها البلدان والمجتمعات التي تستضيف السكان اللاجئين وبالحاجة إلى توفير مزيد من الدعم، عند الاقتضاء، للمجتمعات المضيفة، التي هي أول من يستوعب أثر أي تدفقات كبيرة من اللاجئين" (فقرة 102/البند: (ه)).
إلا أن وزارة الخارجية ومجلس الوزراء والعدد الأكبر من وسائل الإعلام اللبنانية لم يروا في كل هذا التقرير إلا كلمة واحدة ("التجنس") في فقرة واحدة (86) في صفحة واحدة (28)، تم على أساسها دق ناقوس الخطر المؤسساتي والشعبي، وشيطنة هذا التقرير ومن ورائه الأمين العام والأمم المتحدة، والتحذير من أخطار مؤامرة كونية يتعرض لها هذا البلد "الصغير المضطهد البريء" لبنان.
فالفقرة 86 من التقرير تنص على أنه "في الحالات التي لا تكون فيها الظروف مواتية لعودة اللاجئين (…) ينبغي أن تمنح الدول المستقبلة للاجئين وضعاً قانونياً وأن تدرس أين ومتى وكيف تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنيس".
طبعا، إن الفقرة المذكورة آنفاً، خصوصاً إذا تم عطفها على تعبير إعادة "توطين" اللاجئين الذي ورد 7 مرات في التقرير، تطرح مشكلة كيانية للبنان ولتوازناته الطائفية، لا سيما أنه قد عانى الأمرين من مشاريع التوطين في السابق التي كانت أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية المدمرة التي استمرت مطولاً.
ولكن توخياً للأمانة العلمية، واحتراماً لعقول الناس ولعدم تشنيج الرأي العام بدون مسوغ جدي، كان ينبغي على المعنيين في دوائر القرار في لبنان وفي وسائل الإعلام أن يدخلوا بعض الاعتدال الموضوعي إلى موقفهم من الفقرة المذكورة، والحد من موجة الهستيريا التي حيكت حولها.
فأولاً، وكما تدل التسمية القانونية، فإن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة السالف الذكر ليس إلا مجرد تقرير، فهو غير ملزم للدول الأعضاء، وهو يحتوي على توصيات عامة ليس لها أي قوة تنفيذية. وفي حال تم تقديمه إلى التصويت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة دون إدخال أي تعديل عليه (وهو أمر نادر جداً لا بل شبه معدوم)، فيستطيع لبنان أن يصوت عندها ضد القرار في الجمعية العامة.
واستطراداً، في جميع الأحوال، حتى لو تم اعتماد توصية تجنيس اللاجئين في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، فمن المعلوم أنه، بحسب ميثاق الأمم المتحدة، قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة قانونياً، وذلك بعكس قرارات مجلس الأمن.
وعلى سبيل الاستطراد الكلي، في حال تم اعتماد هذه التوصية (تجنيس %10 من اللاجئين) في معاهدة دولية في المستقبل كما هو مطلوب في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، فيستطيع لبنان عندها وبكل بساطة ألا يوقع على هذه المعاهدة، أي تماماً كما فعل بخصوص اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، أو حتى أن يوقع ويصادق عليها مع إبداء التحفظات على بعض البنود التي لا تناسبه، فيكون باعتراضه المستمر على هذه النقطة قد حفظ حقه في عدم إلزامه بتوطين اللاجئين في حال اعتمدت هذه القاعدة نصا أو حتى لو أصبحت يوماً ما عرفاً في القانون الدولي.
(Doctrine de l'objecteur persistant en Droit international).
وقد صبت توضيحات منسقة الأمم المتحدة في لبنان "سيغريد كاغ" ومكتب بان كي مون في نيويورك في هذا السياق التطميني، إذ أكدا أن التقرير عام وشامل، وأنه لا يخص اللاجئين السوريين بشكل محدد، وأن لبنان ليس معنياً إطلاقاً بتوطين اللاجئين، لا سيما أن مقدمة الدستور اللبناني تمنع التوطين (الفقرة ط) . أي بكلام آخر، حتى لو وافق لبنان على معاهدة دولية تلزمه بالتوطين -وهو ضرب من الخيال العلمي- فإن تطبيق هذه المعاهدة في لبنان بحاجة إلى تعديل دستوري بأكثرية ثلثي أعضاء مجلس النواب (المادة 79 من الدستور)، وهو أمر مستحيل؛ نظراً إلى حساسية المسألة.
فبوجود كل هذه العوائق القانونية أمام توطين اللاجئين (وهي غيض من فيض)، لماذا إذاً كل هذا الخوف والتهويل بالثبور وعظائم الأمور من جراء هذا التقرير؟
الجواب ليس موجوداً في القانون الدولي بقدر ما هو قائم في السياسة الداخلية اللبنانية، لا سيما في زواريب الفئوية والطائفية والمذهبية، ومركبات الشوفينية والعنصرية المقيتة والمستفحلة تجاه اللاجئين، وضرورة شد عصب طائفي معين قبل كل استحقاق إنتخابي.
المفارقة هي أن من يحذرون من "خطر اللاجئين" السوريين في لبنان ويتشدقون بعنصريتهم تجاههم، هم غالباً من يتحالفون أو يدعمون الطاغية الذي هجرهم بفعل جرائم حرب تتوالى دون هوادة منذ 5 سنين.
ليس المقصود فيما سلف الدفاع عن أمين عام للأمم المتحدة، أقل ما يمكن أن يقال فيه إنه مقصر تقصيراً فادحاً في أداء مهماته السياسية والإنسانية، لا سيما فيما خص الأزمة السورية، ولا حتى المقصود هو الدفاع عن منظمة (الأمم المتحدة) أصبحت، بإجماع الخبراء والمختصين بشؤونها، بحاجة ملحة إلى الإصلاح بحيث تكون أجهزتها أكثر فاعلية وتمثيلاً لشعوب العالم، إنما المقصود هو لفت النظر إلى خطر تنميق العنصرية والطائفية بغلاف مقارعة قانونية صورية، والتنبيه من خطورة أن يصبح لبنان من الدول الأكثر تأخراً في احترام حقوق الإنسان واعتماد وتطبيق معاهداتها، وخصوصاً التحذير من أخطار عزل لبنان إقليمياً ودولياً من جراء محاربة طواحين الهواء في سلسلة من المعارك الدونكيشوتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.