يعتبر موضوع السلطة لدى المفكر الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920) أطروحة مركزية في كتاباته، وهو لا يناقشها من منظور أدبيات الديمقراطية، بل يتناولها من زاوية الهيمنة والشرعية، فالسلطة لدى فيبر هي "قدرة شخص ما على إجبار الناس لفعل ما يريد بحكم القوة"، لكن الهيمنة هي "قدرة شخص ما على إقناع الناس بطاعته والإذعان له".
يقسم ماكس فيبر السلطة إلى ثلاثة أنواع: عقلانية – تقليدية – كاريزماتية، معيار السلطة العقلانية هو في الأساس القانوني المحدد سلفاً، الذي يخضع له الجميع، وركيزة السلطة الكاريزماتية هي في قناعة الناس بالقدرات الاستثنائية للقائد أو الرئيس، ومشروعية السلطة التقليدية تأتي من تعاليم دينية تمنحها القداسة أو تقاليد اجتماعية توجب لها الطاعة.
إذا نظرنا إلى عالمنا العربي والإسلامي والعالم الثالث عموماً، فإننا نلاحظ أن حكوماته تمارس سلطة تتميز بسمات السلطة التقليدية (الإكراه التقديس – الولاء)، التي عادة ما تحكم علاقة الوالد بولده داخل إطار العائلة، التصورات التقليدية لمكانة الأب في الأسرة توارثتها البشرية على مدى قرون، مما أوجد الأرضية التي تمكن الأب من فرض إرادته على جميع أفراد عائلته.
شرف مكانة الأب هي مصدر استحقاقه لطاعة أبنائه، مراعاة الأب لشرف هذه المكانة يعظم سطوته، وخيانته لهذا الشرف لا يقتضي تحرر أبنائه من الانقياد له، وتحكي رواية (موت البائع) لآرثر ميلر معاناة الابن مع أبيه، الذي خان شرف المكانة حين ضبطه يمارس الجنس مع امرأة ليست أمه!
والولاء شرط حيوي للحصول على دعم الأب وتجنب غضبه، وغالباً ما تتعرض وضعية الابن داخل العائلة للخطر إذا أبدى شيئاً من الممانعة أو التمرد ضد أبيه، وتصور لنا أوبرا (بوريس غودونوف) للموسيقار موسورغيسكي ما فعله قيصر روسيا بيتر الأكبر بالإقطاعيين النبلاء حين شك بولائهم.
مبالغة السلطة التقليدية في العالم الثالث في حماية مصالح رعاياها الموالين لها حال دون نجاحها اقتصادياً، لانشغالها بتوفير الاحتياجات لا بتحقيق الأرباح، غياب الاستحقاق الموضوعي والأساس العقلاني الذي يمنح المشروعية للسلطة التقليدية لم يمنع استمرارها لكنه ساهم في تأخر الشعوب الخاضعة لها حضارياً.
يجدر التنبيه إلى أن طبيعة السلطة لها تأثير مباشر في شكل التفاوت الاجتماعي، فمثلاً في الدول ذات السلطة "العقلانية" يتأسس شكل التفاوت فيها على مستوى الدخل، ولذا يمكن للأفراد الانتقال من طبقة اجتماعية سفلى لطبقة اجتماعية أعلى دون اشتراط موافقة السلطة، وذلك من خلال التخطيط والعمل الجاد والانخراط في اقتصاد السوق، بخلاف الحال في الدول ذات السلطة "التقليدية" التي يتأسس فيها التفاوت على اعتبارات المكانة، وتاريخياً كانت موافقة السلطة الأرستقراطية شرطاً للانضمام لطبقة النبلاء بحكم امتيازاتها الاجتماعية، وأهمها الإعفاء من الضرائب.
يرى فيبر أن الطبقية ظاهرة حديثة نشأت مع صعود اقتصاد السوق، ويجزم بأن التوتر الحاصل بين الطبقات يكون على أشده في لحظة بداية تشكل الرأسمالية، ثم تخف حدته تدريجياً مع اكتمال هيكل الاقتصاد الرأسمالي ورسوخ مؤسساته البيروقراطية.
موضوع الطبقات الاجتماعية لدى ماكس فيبر غامض بعض الشيء، لكن غالبية الدارسين له يتبنون تفسير عالم الاجتماع البريطاني غاري رنسيمان الذي يحدده بأبعاد ثلاثة هي: المكانة – الدخل – السلطة.
التداخل بين هذه الأبعاد المذكورة أعلاه يخلق وضعية يسميها د. جيرهارد لينسكي (أستاذ بجامعة نورث كارولينا) بـ"تناقض الحالة الاجتماعية" المسؤول عن التفاوت الاجتماعي بين الأفراد؛ حيث تكون المنزلة الاجتماعية لفرد ما في أقصى درجاتها بالنظر إلى أحد تلك الأبعاد وفي الوقت ذاته تكون متدنية نسبياً من منظور بعد آخر.
فمثلاً إذا عقدنا مقارنة بين ثلاثة أشخاص، أحدهم قاضٍ في محكمة، والآخر أستاذ في جامعة، والثالث مدير في شركة، بغرض تحديد المنزلة الاجتماعية لكل واحد منهم اعتماداً على هذه الأبعاد الثلاثة، فسوف نلاحظ أن القاضي سيكون الأرقى في سلم المنزلة الاجتماعية في بُعدي السلطة والمكانة نظراً لحساسية عمله، ثم يليه في المرتبة الأستاذ الجامعي؛ حيث يتفوق على مدير الشركة من خلال البعد المتعلق بالمكانة ويتفوق على القاضي في البعد المتعلق بالدخل، ويأتي مدير الشركة في المرتبة الثالثة بعد كل من القاضي والأستاذ الجامعي؛ نظراً لتفوقه في بعد واحد فقط يتعلق بالدخل نتيجة لانخراطه في اقتصاد السوق.
لكن هناك اعتراضاً وجيهاً (لم يُحسم بعد) على هذا التوصيف للعلاقة بين الأبعاد الثلاثة لدى بعض المختصين في علم الاجتماع -مثل أنتوني غيدينز وإيفان سيزيليني وغيرهما- بخصوص وضعية السلطة في هذه التقسيمات: هل هي بعد مستقل؟ أم متغير تابع؟ بمعنى آخر: هل السلطة التي يمارسها المدير في الشركة والقاضي في المحكمة والأستاذ في الجامعة هي سلطة مستقلة عن منزلته الاجتماعية أم تولدت كنتيجة عنها؟
منشأ الاعتراض هو عدم ذكر ماكس فيبر للسلطة "كبعد مستقل" مؤثر في تشكيل الطبقات الاجتماعية في كتابه الموسوم بـ(الاقتصاد والمجتمع)، لكن الأقرب إلى الاتجاه العام لأطروحاته أن السلطة "متغير تابع"؛ لأن تقسيماته لأنواع السلطة لا علاقة لها بديمقراطية أو ديكتاتورية الدولة، وإنما تبحث في مصدر مشروعيتها، وبما أن مشروعية السلطة هي البوابة للهيمنة فقد أصبح من اللازم إيجاد "ميثولوجيا" أو سردية ملائمة لإقناع الناس بفوائد الإذعان للسلطة من أجل شرعنة هيمنتها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.