وحدها شجرة “الطلح” جنب الكثيب.. تعرف عطش هذا الشعب!

رأى نفسه زمن كانت فيه السواعد "معلومة"، والرجال تلوذ عن الحمى مندفعة للموت من أجل حياة كريمة.. فأنشد بقول الشاعر يرثي به حاله ويتأسف على زمن أشباه الرجال.. أولائك الذين يتباهون بمدافعهم كالأطفال في أعياد عاشوراء

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/20 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/20 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش

ذات مساء صحراوي النسمات، غازلت فيه الشمس محيا الأديم الأسمر كسحنة الشيخ الذي وقف على ظهر الكثيب بوادي الساقية الحمراء.. ينظر بشهية إلى أسارير منبته، الذي زادته جمالاً تلك الأشعة، فتمنى أن يرقص عارياً تحت جدائلها ملء عنفوانه العاشق، ولا يهمه إن تابعته الأعين.. فحب الوطن لا يعرف حدوداً وتأويلاً.. تخيل أن الطبيعة غطت في نوم عميق وفقدت صخبها، ووقفت شاخصة تحدق فيه.. ليكتشف أن الكثيب لم يعد سوى سرير رمل كئيب، يسيجه الماضي بالذكريات، ويحرصه الحاضر بالخيبات.

جلس "الداه" على بساط الرمل، ذهبي الحبيبات. حملق في الفضاء الصحراوي ذي السيمات الامتناهية.. أخرج من "التاسوفرة" التي عنده مواعين الشاي.." الطبلة والربايع" وبضع قطع فحم اشتراها من بائع معمر في العيون "محماد السوسي".. إيماناً بأن الريح الشمالية أتت على الأخضر واليابس.. فلا داعي أن نكون عوناً لها على أرض تئن وجعاً كأم في مخاضها.. وأن لا نبيد ما تبقى من فتات الطبيعة، الناجي بعد الطوفان البربري الذي اجتاحها.. لاح عينيه كصقر في الفضاء حوله.. لا أثر لإنسي يكمل معه "جيمات اتاي الثلاثة"، فاستسلم كالميت لحتفه إلى جيم "جماعة" مع نفسه.. كمناجات للروح في معبد آلهته منفية قصراً في كل بقاع الأرض، من أقصاها إلى أقصاها.. كأن هذا الشعب حبة رمان قذفت بها سخرية القدر بلا هوادة، فتناثر حبها على خارطة البسيطة.. تناضل فراداً، ومثنى وثلاثاً ورباعاً، كي تجتمع على خارطة الوطن.

وكفعل أحذية العسكر النتنة فوق أرض الكثيب الطاهرة.. أخذت أحذية الذاكرة تجول في عقله دوساً، فأخذ يجتر الذكريات.. من يوم بدأت تختزل الحياة، من عشرينات القرن المنصرم.. حيث كانت "الفركان" ضاربة في أرض الوطن طولاً وعرضاً.. أيام كانت خيمة البدوي الأسمر كلون الوبر، قصراً له وهو ملك لها، سيد نفسه والصحراء.. حشرج "الداه" في تمتمات خافتة بينه وبين نفسه.. "تبدل ياسر ذا لوان، عن ذاك الدهر خلعنا".. وتساءلَ تساؤُل المحتار: أين الغطارفة النجب الكرام إن نزحوا، جحاجحة إذا حضروا.. أين الغزال الذي كانت ذي مراتعه؟ أين الخلان هنا والغيد والسمر؟!.. أين ذياك الزمان وأهله؟ هل قتل الإنسان أم نفي في الأرض، أم انطوى بخيبته على نفسه، بعد كلل الضرب الطائش في الأرض والسحب.. من يرد للأرض بكارتها، كي ما نشهد الرعشة الأولى من الشبق؟!

"الداه" لم يستوعب بعد، أن زمن "الفركان" قد ولى واندثر، رحل وأصبح بدله زمان العدوان.. وأن اليوم الذي كانت بأيديهم زمام الأمور والشؤون صار زمن مجلس الأمن و"بانكيمون".. وأن زمن الإبداع في "طلع لبتيت" أصبح اليوم من مخلفات الماضي وشيء من "التفيتيت".. تاه الشيخ في متناقضات الماضي – الحاضر، والحاضر – المغيب، عنه وغير المعاش ممارسة في زمن يتقافز فيه زئبق الحضارة في حياة البدو الساخة، التي لا يحدد معناها إلا طابو وطوطم البداوة.. وطرح سؤالاً لعلع في تجاويف رأسه كرصاص بندقية في يد جندي معتوه: كيف يكون الجحيم الذي وعد الله المشركين وتوعدهم به يوم الحساب، هو هذه الحياة التي يعيشها شعب عربي، مسلم، كله بالتمام والكمال؟! وهل يمكن أن يمثل شعب بكل شرائحه، طبقاته وقبائله أسطورة "سيزيف"؟ وهل يعقل أن تكون الصخرة هي القضية؟

تخيل أو تسللت إلى ذهنه كلص خبيث ومحترف، فكرة بعينها على شكل تساؤل: هل من الممكن أن تكون الأرض هي المشكل؟ لما لا يكون الإنسان هو نفسه المشكل؟ ربما هو انتقام القدر لمن سقطوا على هذه الأرض، ضحايا الحروب القبلية، في أبهى صور الجاهلية البدوية، أيام "غزي"، لا تزال لعنة تلاحق هذا الشعب.. زفر الداه زفرة مشحونة بغضب مخضب بألم، لمقاومة كيميائيات إحساس بفقدان الزمن.. وإحساس بفقدان المكان، وحتى الإنسان.. زفر متمنياً أن يكون كل هذا وذلك مجرد شمعة سرعان ما ستطفأ نارها بنفس خرجت حزينة تعانق فيها الألم والغضب.. فجأة تذكر "الداه" أنه في كتاب الله توجد آية ذكر فيها التيه، وأنه دام أربعين سنة، وتذكر أنه في ما يروى من تفسيرات للكتاب، يذكر أن مدة التيه لها علاقة بتغيير الأجيال.. فروى قليلاً ثم أحجم برهة، متسائلاً في دواخل نفسه، بحشرجة باطنية لا ترى كالأحاسيس: هل يكمن السر في العقود الأربعة؟! ترى: هل يمكن أن يكون جيل الألفية الثالثة هذا، غريب الأطوار والغربي الثقافة، وهجين اللهجة، هو الجيل المخلص من السلاسل الشمالية الأغلال؟ أم يكون الخلاص في الشباب الشرقي؛ الذي وُلد وتربى تحت خيام اللجوء، ولم يبصر يوماً شعب الإسبان، الصهباء ملامحه، ولا هذا الصفراء آذانه؟!

لاح في جوفه كأس الشاي الأول المعبق بمرارة الحياة.. وأطلق العنان لبصره فإذا بها سيارة دفع رباعية تشق الكثيب نحوه، وقد تناثرت في جنبات عجلاتها حبيبات الرمل، كأنها تقفز هاربة من فعل الدوس.. كما هرب الكثير من أبناء الوطن ذات اجتياح أحمر قانٍ بلون الدم.. كانت السيارة مدنية اللون، ومخزنية المهمة "ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قبله العذاب".. نزل منها اثنان سيماهم الذل، الذي طبع على وجوههم من كثرة الخنوع، وقسماتهم حقودة بتأثير من خمر الكراهية التي يعاقرونها على أنخابنا.. مشاءة هي خطواتهم نحوه بعجالة وتناسق عسكري خشن.. وبلا سلام، ولا حتى تحية يختزلها معجم الإنسانية جمعاء.. ركل أحدهم "الطبيلة"، وأطفأ النار.. فيما ألقى الآخر خطاباً متعفناً أعد مسبقاً في دوائر أصحاب الأمر والنهي في وطن مغتصب، مورست عليه كل أنواع الجنس الاحتلالي والاحتيالي بكل سادية.

حُمل الشيخ كخيش دقيق، رمي به في مؤخرة السيارة الموبوءة.. لم يملك الداه في تلك اللحظة سوى عبرة مالحة كالإحساس بالفقد، سقطت من عينيه ضعيفة، كما سقط الوطن قبلها.. ملوحتها كانت مرة الطعم كالتخاذل، ونفسه تجهش بالبكاء، على زمن كان فيه الدم يسيل في هكذا مواقف.. لكن ميزان القوى لا يستحي كي يميل بكفة رجل هرم، أمام عنهجية الدخيل التتارية.. إحساس المهانة شربه في كأس احتقار شفاف، يعكس زجاجه تلك الروح قد جردت من إنسانيتها.

ففتش أنت يا قارئي في ما تملك من مفردات اللغة، فستعجز عن وصف ذياك الإحساس، كما عجر هو عن رد ما ألمّ به، وبالوطن وبالإنسان.. تخيل معي أن تعترض طريقك وتنهب وأنت لا تملك دفاعاً لنفسك، ولا حول لك ولا قوة، لحظتها ستستوعب هذا المشهد الباهتة ألوانه، كالكأس الأخيرة من الشاي.. في تلك اللحظة وفي لمحة عين رأى شريط حياته، وفتوته في ريعان شبابه، يمر سريعاً متماهياً مع عداد السيارة التي عبأ داخلها.

رأى نفسه زمن كانت فيه السواعد "معلومة"، والرجال تلوذ عن الحمى مندفعة للموت من أجل حياة كريمة.. فأنشد بقول الشاعر يرثي به حاله ويتأسف على زمن أشباه الرجال.. أولائك الذين يتباهون بمدافعهم كالأطفال في أعياد عاشوراء، ويتفاخرون ببزاتهم المرصعة بالنجوم كالصبيان صبيحة العيد.. ويتشدقون بكلام لا يؤمنون به، كبائعي الوهم للغبيات من النساء.. ردد البيت بممرارة وهو لا يعرف إلى أين سينتهي به قدره: شيبك يا دنيا حتى الحمام يصطاد مني .. وأنا طائر أصطاد من الدرع

* ملاحظة : هناك كلمات بالحسانية هنا أحاول شرحها:

– التاسوفرة: حقيبة للرجل كان يحمل بها زاده.
الطبلة: صينية الشاي../ الربايع: أوانٍ يوضع فيها الشاي والسكر. سُميت باسمها هذا تيمنا بشكلها الرباعي.
جيمات أتاي الثلاثة: شروط صحراوية للشاي المكتملة طقوسه؛ وهي الجماعة إذ من الأفضل أن يتم تناول الشاي مع الجماعة، و"الجر"، كناية عن استحسان إطالة المدة الزمنية لتحضير الشاي؛ وهو شرط يتيح للجماعة فرصة تناول أمورها بروية وتأنٍّ.. والجمر؛ إذ من الأفضل إعداد الشاي على الفحم.
– تبدل ياسر ذا لوان عن ذاك الدهر خلعنا: وا أسفها، تغير الكثير هذه الآونة عن حاله في الماضي.
– جماعة: الحديث الجماعي.
– الفركان: جمع فريك، أي مضارب خيام القبيلة، أصلها "فريق" وتنطق القاف كالجيم المصرية.
– الطلع: جمع طلعة، أي قصيدة.
– لبتيت: بحر من بحور الشعر الحساني.
– غزي: الغزو الذي كانت تشنه قبيلة على أخرى.
– الطبيلة: تصغير الطبلة.
– معلومة: أي قوية.

* استدراك: هذه التدوينة المتخيلة أحداثها، كتبتها العام الماضي، وقد راودتني إرهاصاتها بينما كنت أستقل القطار بين مدينتي الرباط والبيضاء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد