الرقة.. أول محافظة أقامت تمثالاً لحافظ الأسد وأول مدينة تبوّلت عليه!

ولأن حب القائد من المصادر الرئيسة لتكوين الثروة، فقد أصبحت تماثيل حافظ الاسد تجارة رابحة ومصدر رزق للكثيرين وحماية لهم من العوز، فانتشرت قوالب "الجبصين" التي يبيعها طلاب وخريجو كلية الفنون بأحجام ووضعيات مختلفة، وصارت "تماثيل القائد" من لوازم مداخل أبنية دوائر الدولة،

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/08 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/08 الساعة 02:42 بتوقيت غرينتش

يؤخذ على الرقة أنها أول محافظة سورية تم فيها الانتهاء من إقامة تمثال لحافظ الأسد، ويحسب لها أنها أول مدينة تحطم تمثاله، ويتبول أحد مواطنيها على الحطام أمام عدسات المصورين، ثم يرمونه في المزابل.

مع التنويه بأن ما يؤخذ عليها سببه المسؤولون في رحلة نفاقهم وتزلفهم، أما ما يُحسب لها فسببه أهلها الذين تحملوا إجرام نظام الأسد وابنه أربعين عاماً ونيفاً، وهم يصبّرون أنفسهم منتظرين حصول المعجزة، التي جاءتهم يوم 4/3/2013.

فتحت الرقة، في الريادتين، الأبواب لغيرها من المحافظات السورية، فبعد الانتهاء من تشييد إقامة التمثال الأول، أصبحت هناك حالة إسهال قل نظيرها في بقية المحافظات، وصار لتشييد تماثيل حافظ الأسد مؤسسة فساد جديدة قائمة بذاتها تضاف لمثيلاتها، والحال نفسه عندما تم تحطيمه؛ إذ عمّت سوريا بعدها حمى التحطيم، إلى درجة أن أهل حماة لما وجدوا أن الأمن العسكري قام بفك التمثال ونقله إلى إحدى حظائره، كي يمنع الحمويين من تقليد أهل الرقة، قاموا – برمزية قلّ نظيرها – بوضع حمار حي مكان التمثال.

تعود حكاية تشييد التمثال الأول الى أوائل ثمانينيات القرن الماضي، عندما تم تعيين محمد سلمان محافظاً للرقة، ومسؤولاً أمنياً على مختلف الأجهزة الأمنية في محافظات دير الزور والحسكة والرقة معاً، وكي يثبت مقدار ولائه للقيادة الحكيمة، وأن الابتكار لا يقتصر على وزير الاعلام – آنذاك – أحمد إسكندر أحمد، الذي اخترع لحافظ الأسد لقب "قائد المسيرة"، تفتقت عبقرية سلمان عن فكرة إقامة تمثال بحجم مضاعف لحافظ الأسد، و "ما حدا أكثر نفاقاً من حدا"!!

استقدم سلمان يومها النحات نشأت رعدون، الذي تجمعه به علاقة تعود إلى أيام الجامعة، حين كان سلمان عضواً في فرع حزب البعث والمسؤول الأمني فيه.. حضر نشأت إلى الرقة واتفقا على أن يكون موقع التمثال في مدينة الطبقة، التي تتبع إدارياً محافظة الرقة، وكانت التكلفة المقترحة مليون ليرة سورية، ومن فوره قدم نشأت نماذج ومقترحات، إلى أن استقروا على أن يكون التمثال أقرب إلى الهرمية، قاعدته مزدانة برسومات عن إنجازات القائد (..!!)، فيما يشكل القسم العلوي من جسم حافظ الأسد رأس الهرم.

باشر رعدون العمل، ووضعت تحت تصرفه كل إمكانيات الدولة من سيارات ومطاعم وويسكي وبيرة، وجاء بمساعدين من الرقة وغيرها بأجور زهيدة، ولم ينته تشييد التمثال حتى تجاوزت تكلفته المليون دولار، حسب قيمة الليرة في ذاك الزمان، مضافاً إليها قيمة فواتير بنزين السيارات التي خصصت لتخديم العاملين في تنفيذ التمثال، وثمن المآدب التي أُقيمت على شرف التمثال، وقيمة المشروبات التي سفحت، وكلها تدفعها دوائر ومؤسسات الدولة إضافة لميزانية التمثال المعلنة في العقد، مضافاً إليها حصص المحاسبين والمديرين والمقربين منهم.

أما التمثال الثاني فقد أقيم بداية تسعينيات القرن الفائت في ساحة الإطفائية بمدينة الرقة، وكي لا يقال عنه إنه "استرخص" في تقدير القائد، جاء المحافظ – الجديد آنذاك – محمد نجيب السيد أحمد – بالنحات نفسه، وكلفه بإنجاز تمثال لحافظ الأسد يفوق تمثال سلفه طولاً، مع إضافة بعض "البهارات الفولكلورية" عليه. وبالفعل تم إلباس التمثال عباءة تشبه ما يرتديها أهلنا أيام زمان، وما زال أحفادهم يتغنون بها. أما كلفة هذا التمثال فلا يعلمها إلا المحاسبون ونشأت رعدون الذي أصبح خبيراً بهم وبمعلميهم، وبالنسب المتوجب تنظيم توزيع الغنيمة حسبها.

وبين هذين التمثالين، وبعد إنجازهما، اشتدت حمى التنافس بين محبي القائد في التعبير عن حبهم وولائهم له، وشملت الجغرافيا السورية كلها، وكثر المنافسون لنشأت رعدون من "نحاتي البعث واليسار السوري من جماعة موسكو"، فنزل إلى الميدان محمود شاهين، القادم من حضن طائفة الرئيس، فأنجز تمثال دير عطية الضخم جداً، الذي كَوّن ثروة محترمة من تعهد تنفيذه، ليس من الأجور التي قبضها بالعقود المبرمة مع الحكومة فحسب، بل ومن "الإكراميات" التي يتلقاها من مئات المجندين، الذين تم فرزهم من قطع الجيش المقاوم كمساعدين له؛ إذ وبسبب وطنيته الزائدة كان يرسلهم إلى بيوتهم كنوع من الإجازة مدفوعة الثمن!!.

أما النحات مجيد جمول البعثي الموسكوفي المشهود له في وزارة الثقافة كمخبر لا يشق له غبار، فقد تعاقد مع محافظة مدينة دمشق على تصميم وتنفيذ تمثال تم وضعه في ساحة عرنوس وسط مدينة دمشق، وكاد يطير رأس جمول حين تبين أن رأس الأسد لا يتناسب حجمه مع الجسم، فجرى تطويق التمثال بعناصر الأمن، وتسوير الساحة بالقماش والمعدن، وإزال الرأس وتعديله ومن ثم إعادته لمكانه، ومن يومها يجرون له صيانة دورية كل بضع سنوات، ولم تفارقه دوريات الحراسة السرية، خوفاً من سقوط رأس التمثال!!.

ولأن حب القائد من المصادر الرئيسة لتكوين الثروة، فقد أصبحت تماثيل حافظ الاسد تجارة رابحة ومصدر رزق للكثيرين وحماية لهم من العوز، فانتشرت قوالب "الجبصين" التي يبيعها طلاب وخريجو كلية الفنون بأحجام ووضعيات مختلفة، وصارت "تماثيل القائد" من لوازم مداخل أبنية دوائر الدولة، وقطعة توضع في مكان بارز في مكاتب الوزراء والمديرين وأعضاء القيادتين القطرية والقومية وقادة الجبهة الوطنية، بل لا يمكن لقائد قطعة عسكرية أن يحوز رضى القيادة الحكيمة، إلا إذا زيّن ساحات لوائه وغرف قادتها بتماثيل حافظ الأسد!!.

وكما قلنا في أول الكلام "ما حدا أحسن من حدا في النفاق"، اكتشف بعض العامة من شعب القائد أهمية تمثاله، وزادوا في الابتكار، فمن أراد منهم – مثلاً – بناء طابق مخالف لضوابط البناء، ما عليه إلا أن يشتري تمثالاً صغيراً لـ"قائد المسيرة"، ولا يهم إن كان مصنوعاً من أرذل المواد، أو غير متقن الصنع، ثم يقوم بوضعه على سطح المنزل المراد تعليته، ويشيد السقف فوقه كي يحميه من برد الشتاء وحر الصيف، ثم يخرجه بعد فترة إلى السقف الجديد، وهكذا إلى أن ينتهي من بناء الطوابق الإضافية التي يريد بناءها، أمام عين ضابطة البناء، التي لا تفعل شيئاً، بل تبارك للمخالف فطنته وحبه للقائد!!.

من هو ذلك المجنون الذي يجرؤ على هدم سقف يظلل تمثال القائد؟!
أما عن مصير التمثالين الرائدين، فإن النار أضرمت في الأول منهما، يوم 11/2/2013 بعد تحرير مدينة الطبقة، وإخراج المعتقلين من المفارز الأمنية، وعلى حد وصف شهود العيان: (التهمته النيران بشكل غريب، لتكشف حقيقة "صنم حافظ الأسد" المصنوع من مواد رخيصة مغشوشة، وأنه كان ممتلئاً بأكياس النايلون السوداء، التي تستخدم لجمع القمامة.. ويقول أحدهم: "لا أظن أن هناك غشاً، فتمثال حافظ الأسد محشو بالحقيقة التي تنضح منه")، وقد عثر على ما تبقى منه في إحدى مزابل المدينة.

أما التمثال الثاني المعروف باسم "حافظ بالعباءة"، فقد قام سكان مدينة الرقة في يوم تحريرها في 4/3/2013 م بتطويق عنقه بحبل متين، طرفه الآخر مربوط بسيارة الإطفاء الضخمة، التي شدته حتى اقتلعته من قاعدته وسط صيحات فرح الأهالي بطي مرحلة الديكتاتور الأكبر، والدوس على رأسه الذي صار على الأرض، ثم في لحظة من لحظات الفرح هذه، قام المواطن العجوز طه المرندي "أبو حسون" بالتبول عليه أمام الجموع الهادرة؛ ليدخل بذلك في موسوعة غينيس كأول رجل تبوّل على تمثال الأسد!
بعدها تفنن السوريون في المناطق المحررة في اختراع استخدامات جديدة للتمثال، فمنهم من جعله مداساً، ومنهم من ركّبَ له قرون ماعز، ومنهم من ألقمه فردة حذاء أو عظمة خروف، ومنهم من فتح رأسه فتحة تشبه فتحات دورات المياه الإفرنجية، وغير ذلك من استخدامات جديدة مبتكرة.

في الطرف الآخر، أصيب المؤيدون لحافظ الأسد وابنه بوجوم كبير، وهددوا وتوعدوا بالانتقام، بل وصل الأمر بينهم إلى درجة الانتحار، وقد نقل أحد المواقع الإلكترونية الموالية أنه بتاريخ 7/3/2013 انتحر الشبيح مضر إسماعيل بعد أن شاهد عملية تحطيم تمثال حافظ الأسد في مدينة الرقة، وهو عضو في ميليشيا البعث التي أنشئت كرديف لميليشيا "الشبيحة"، وقد عثر عليه في منزله جثة هامدة، وتبين أنه انتحر بإطلاق رصاصة في رأسه، بعد أن شاهد ما حلّ بالتمثال من فنون الإذلال والإهانة على يد أهالي الرقة!!

عمار مصارع

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد