أكثر ما هو مؤلم في التجربة السورية التناقضات السلوكية في الوسط الثوري، مثال على ذلك، خرج "ثوريان" في المظاهرات السلمية يرفعان شعارات واحدة، ويهتفان بحنجرتين متشابهتي اللحن، يواجهان ذات الرصاص، وذات البندقية، وقد يدخلان ذات المعتقل، ثم فجأة وبعد أن تتفاعل دراما الأحداث تجد الأول بملامح لا تعرفها في الخنادق، أو يرزح تحت الحصار بعد أن فقد ذويه قتلاً أو جوعاً، والثاني حسن المظهر منمق الكلمات بدت عليه ملامح الأرستقراطية، يزيد ذلك ياقة من الطراز الفرنسي أو البريطاني، "ثوريا" متألقاً لا يُشَق له غبار على شاشات التلفزة، أما خلفية الاستوديو، إما برج إيفيل أو البوسفور الساحر، وأحياناً نافورة جنيف الخلابة.
إن هذه الصورة ليست سيناريو مفترضاً أو صورة من الخيال، إنه مشهد سوري "ثوري" بامتياز، لا يمكن نكرانه على الإطلاق، وهو ليس سراً في نفس الوقت، نستحضر تلك الصورة الماوية (شديدة التناقض بين الأسود والأبيض)، ونتحاشى الإسقاطات الشخصية في هذه المسألة؛ لأنها بكل تأكيد ليست الغاية.
بالنسبة لي، هذه الصورة أكثر إيلاماً من الدم الذي يضرج امرأة مسنة في حلب أو صراخ طفلة أفزعتها براميل الأسد، ذلك أنه في تناقض تلك الصورة قتل وطعن للقيم، أما في مشهد "ثوري" الخنادق وقتل الأطفال مشهد -لا شك أنه مؤلم- لكنه لا يتجاوز حالة واحدة قد تتكرر وتموت فوراً.. أما مشهد الانسلاخ عن قيمة الثورة أصبح خطاً متبعاً ومنهجاً أضاع ثورتنا التي غلفت السوريين دماً.
هذا النمط من المعارضة المنشطرة من بيئة الثورة صنع -بقصد أو من دون قصد- بطريقة مستفزة تقتل عزيمة أكبر ثورة في العالم، وتعمم نوعاً من التجارة السياسية التي لا تلائم الحالة السورية، لكن ما يهمنا التعمق في كيفية صناعة هذه الظاهرة؟!
يخرج المعارض من الداخل يحمل قيم الثورة ورائحته تفوح بعطر الشهداء وعطر البارود، يلتقي السياسيين والدبلوماسيين الغربيين، يغرق في شرح التفاصيل وسرد القصص الإنسانية على سامعيه، يظن أنه أذكى من هؤلاء "الخواجات"، وقادر ببراعته على إقناع العالم بعدالة قضيته، لكنه يصطدم ببراغماتية السياسيين، يشعر أن مهمته فشلت، إذاً لا بد من تغيير الخطة ورفع مستوى البراعة في الإقناع والكلام، يستمر في تلك الدوامة التي تشبه المصيدة، حينها تستهويه "مهنة" الكلام في السياسة والتنظير واللقاءات الدبلوماسية المحترمة شيئاً فشيئاً، يدمن عليها وعلى بريقها حتى يقع في غرام المعارض السياسي ويرتدي بدلات حديثة تسلخه من قميصه الرث وبنطاله الكلاسيكي؛ ليودع شكلاً ومضموناً الماضي الثوري مودعاً صديقه المتخندق، ويقول: "نعم أنا الآن أحمل القضية أيضاً، أما أنت يا صديقي (دورك) أيضاً أن تنام دون أن تغفو عيناك عن سلاحك.. لكن دوري الآن أكبر، إقناع العالم بعدالة القضية".
لا بد من الاعتراف أن لدى السوريين عقدة حقيقية أعاقت كثيراً قيم الثورة، عقدة "أنا كل شيء"، أنا السياسي والعسكري والثوري والمفاوض وجابي المال، هذه الطريقة الفوضوية في التفكير حطت من الوزن العملاق لثورة الكرامة، وحولتها إلى حقل تجارب يصبح الكل مؤهلاً أن يقود التجربة.
تساؤل طالما يرافقني دون أن أجد له مبرراً: لماذا من يقود الملحمة السورية من الخارج؟! ليس مفهوماً على الإطلاق في العمل الثوري أن يكون القائد من خارج بيئة الثورة، كيف لهذا القائد أن يعبر عن حالة لا يعرفها إلا عبر "السكايب" أو عبر "بوست" ثوري أجهد نفسه لصياغة كلمات تدغدغ مشاعر السوريين في الداخل؟
صحيح أن للثورة "قيحاً" لا بد أن يظهر أثناء المخاض، لكن هذا القيح أصبح انتكاسة وطال نزيفه، تحول من حالة عابرة إلى حالة مزمنة امتزج فيها الربان مع راكبي السفينة، وضلت السفينة الطريق وسط أمواج البحر الغدارة "دولياً".
لا يمكن أن يقارن المرء بين صورة هؤلاء الذين خرجوا عاريي الصدر ضد دبابات الموت وبين صورة الرفاهية السياسية التي يظهر فيها المعارض السوري؛ الأول خرج من أجل الثورة، واستبدال الماضي بالمستقبل، أما الثاني -بعيداً عن التشكيك والتخوين- يؤدي دوراً سياسياً مفروضاً عليه.
لماذا وطوال السنوات الخمس الماضية لم نرَ حالة ثورية لدى الطبقة السياسية السورية، يموت السوريون على خطوط القتال بالآلاف ويقتل الأطفال والنساء بالبراميل المتفجرة ولا تتحرك روح الثورة في قلب أي سياسي؟ لماذا لم نرَ سياسياً يدخل جحيم الحرب إلا مستعرضاً وملتقطاً صوراً للخلود السياسي؟.. السبب أن الطبقة السياسية ممثلة للثورة وليست هي الثورة، إنه الانفصام الثوري في التجربة السورية.
تحولت الثورة من انتفاضة يعلو فيها الشعب فوق كل اعتبار إلى تطبيق برامج وأجندات دولية وإقليمية، وفي معظم الأحيان فالسوريون هم من يقدمون الولاء -غير المبرر- لهذه الدول، حتى إنهم أفسدوا إدارة الدول الصديقة للأزمة بتسابقهم إلى الدول وتقديم مصالح تلك الدول على مصلحة الثورة، كان يفترض بالمال السياسي أن يكون للثورة، وإذ به يتحول إلى صراعات داخل الثورة.
لا أعرف لماذا تستهويني طوال مسيرة الثورة السورية صورة "الرمز" أبو عمار ياسر عرفات الذي ظل مرتدياً الكوفية في كل منتجعات العالم السياسية، وتستهويني أيضاً علبة "السردين" التي طالما تحدث عنها أبو عمار على أنها كوب الشاي في مخيمات لبنان، متوارياً عن الاحتلال الإسرائيلي، كم هو مدرسة ذلك "الختيار" الذي دوخ إسرائيل.. نحن السوريون نحتاج اليوم أكثر من أي مضادات وتسليح إلى "أبو عمار" واحد فقط يحمل "القضية" في كوفيته لا ياقته الغربية المخادعة.. "عاشت الثورة حرة أبية من درعا إلى البوكمال".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.