"أولئك الذين يأملون بأن تذهب المعاناة عنهم يوماً ما، لن تذهب؛ لأن المعاناة ليست في الأشياء والأحوال، إنما المعاناة بداخلهم ستذهب معهم أينما ذهبوا".
هكذا إذن يرى شمس الدين التبريزي – أحد الصوفيين – الابتلاءات والمشاكل والصعاب التي نمر بها في دروب الحياة وغياهب الطرقات، نمر في طرق من الابتلاءات الشديدة التي ربما تعصف بنا تماماً في بحر من الهموم والأحزان، ولا ندري أين نحن؟ كيف نحن؟ ماذا نفعل؟
تعصف بنا المشكلات بكل قسوة ودون هوادة أو رحمة، وكما يقول المثل: "المصائب لا تأتي فرادى، إنما تأتي مجموعات تلو مجموعات".
كيف السبيل إلى النجاة والهدوء، لطالما وجدت أحد الأصدقاء يدعو ويسأل الله أن يعطيه الهدوء، لم أفهم حينها ما هذا الدعاء؟ كيف أسأل الله أن يعطيني الهدوء، بل ما هو الهدوء من الأساس؟!
أثناء السير في بحار الهموم والأحزان والمشكلات تجد نفسك تشتاق للهدوء، ذلك الإحساس العميق بالرضا، والاطمئنان أن هناك يداً ما في الخفاء تتلطف بك.
يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري: "متى فهمت عن الله في المنع، كان المنع هو عين العطاء"
أي أن المنع نعمة من نعم الله علينا، مثل أن تمنع طفلاً صغيراً من أن يلعب بالنار أو أن يؤذي نفسه بأي شيء.
إذن ما السبيل إلى الرضا؟
إذن الحل عند النبي محمد الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وآل بيته الكرام عليهم رضوان الله، كان أهل بيت النبوة بشر مثلنا تماماً يتألمون كما نتألم وتقسو عليهم الحياة مثلنا تماماً ولنر سويًا ما حدث مع آل البيت عليهم رضوان الله.
كانت السيدة رقية ابنة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وزوجة عتبة بن أبي لهب، وكانت "حماتها" هي حمالة الحطب أو أم جميل زوجة أبولهب. جاء وفد من آل عبدالمطلب إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لطلب يد ابنتيه رقية وأم كلثوم لعتبة وعتيبة ابني عمهما، وكانت أم جميل امرأة قاسية غليظة الطبع حادة اللسان، فذاقت السيدة رقية الأمرّين على يد هذه السيدة، وكتمت السيدة رقية ما تمر به في بيت زوجها خوفاً من أن تتسبب في حزن لأبيها وأمها لما تلقاه علي يد أم جميل، إلى أن أعلنت قريش تطليق بنات النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد إعلانه دعوة الإسلام.
طلق عتبة ابنة خير الأنام، وعادت إلى بيت أبيها وجلست في البيت بعد تبدد الأمان والهدوء والسعادة، إثر ما قامت به قريش من حرب على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم جاء سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) يسعى للزواج من السيدة رقية، وتقول كتب السير: "لم يُرَ زوجان أجمل منهما ولا أبهى".
ثم كانت الهجرة الى الحبشة مع زوجها سيدنا عثمان، وهناك رزقها الله الولد "عبدالله"، وهكذا بدأت الحياة تفتح لها ذراعيها بابتسامة كبيرة، وازدادت بهاءً عندما أخبرها سيدنا عثمان بأنه لطالما أحبها وكيف حزن حين علم بزواجها.
ولكن، لم تدم تلك السعادة طويلاً حين استيقظت يوماً على صراخ ابنها عبدالله وقد نقره ديك في عينه وفي وجهه فصفاه من الدم فمات الطفل.
اشتدت عليها الأحزان حتى سقطت طريحة الفراش في موعد غزوة بدر واستأذن سيدنا عثمان أن يمكث إلى جوارها، وبعد عودة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) منتصراً من بدر أخبرته السيدة فاطمة وطلب منها أن تصحبه إلى قبر رقية وهناك وقف (صلى الله عليه وسلم) صامتاً.
ولنتأمل حال الحفيدة المنسية أمامة بنت زينب (رضي الله عنهما)، هي ابنة السيدة زينب ابنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد وجدت أمامة أباها "أبا العاص بن الربيع" محارباً لجدها النبي الكريم، ثم وجدته أسيراً في يد المسلمين، وأطلق الجد سراح الأب بعد شفاعة الأم، وعاشت الحفيدة في كنف الجد وتعلقت به تمام التعلق.
فبينما كان النبي الحبيب يؤم الناس كانت تنام فوق كتفه، وحينما يهمّ الجد بالسجود ويضعها أرضاً تشعر بالخوف وتبكي فيقوم الجد من السجود ويحملها فوق كتفه ويبدأ في التلاوة من جديد وتنام هي من جديد.
جاءت في يوم هدية قلادة محلاة بالذهب وعرضها النبي على آل بيته فقلن إنهن لم يرين أحلى منها، تأملها النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال: "والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إليّ"، ثم استيقظت الصغيرة أمامة وجرت الى جدها الحبيب القريب لقلبها فوضع القلادة في رقبتها.
عاد الأب يوماً ودخل في الإسلام وعاشت في بيت أسرتها، ثم ما لبثت أن مرضت السيدة زينب أمها وماتت وتركتها في بيت خالتها السيدة فاطمة حيث عاشت أمامة، ثم رحل الجد الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ثم رحلت الخالة بعده بشهور قليلة، ثم رحل الأب أيضاً وكان قد أوصى الزبير بن العوام بأن يكون وليّ ابنته، الذي أخذها كي تعيش في بيته مع السيدة أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما).
هاتان امرأتان من آل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)، ابنته وحفيدته مرّت كل منهما بأشكال وصنوف من الابتلاءات والصعاب وألم فراق أب وأم وحزن وهما من هما، وكم من ابتلاءات وصعاب مر بها آل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) تذكرها كتب السيرة.
هلا تأملنا جيداً ما نحن فيه؟ هلا نظرنا حولنا في أهلنا وأصحابنا؟ فالكل مبتلى والكل يمر بالمشكلات والصعاب والهموم الثقال، ولكن كل على قدر احتماله فإنما يبتلينا الله عز وجل قدر استطاعتنا فقط.
مررت في الأيام الماضية بمشكلة كادت أو تودي بعقلي من شدتها، ثم ما لبثت أن رأيت حولي من هم أكثر ابتلاءً مني، من هم في صعاب أكثر مني، ووجدتني أحسن حالاً من الكثير والكثير.
إن الكسور التي تلحقها بنا الحياة في أيامنا الحالية ما هي إلا دروس شديدة الأهمية لمستقبلنا، ومن هنا جرت العادة في اليابان مع كسر أيٍّ من الأواني الفخارية، يتم جمعها وترميمها بالذهب كي يعطي انطباعاً بأنه من الممكن أن يكون ما بعد الكسر أجمل، وما بعد الإصلاح أقيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.