عمي

أما عمي الذي أعلَن: لن أصمد شهراً بعد وفاة شريكة عمري، ولحقها بعد أقل من ذلك، فيكفيه من الدنيا أن فجع بأب وأم وثلاثة إخوة وزوجة وابنتين، هرماً ومرضاً وفجأة واغتيالاً، وأن فجع قبل ذلك بوطن غادره على قدميه قاطعاً الصحراء

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/19 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/19 الساعة 03:11 بتوقيت غرينتش

عاد لي شيء من إنسانيتي المسلوبة -على يد معاتيه الكوكب- حين تابعت جموعاً أتت من كل حدب إكراماً لفرد بعينه طوال ثلاثة أيام
رأيت فيها مكانة أرادها الله للإنسان، ووضعت بالفطرة في قلوب البشر.

حين اهتز كل بطريقته، ثم هرع يسلي مصاب غيره، حين رأيت أذرعاً تتدافع لحمل ذاك الإنسي فوق الأكتاف؛ يخصص وقتاً يلي الفريضة للصلاة عليه دوناً عن غيره، حين يسجى متقدماً الجميع؛ يصلي عليه من يعرفه ومن لا يعرفه، ثم تراه آمًّا موكباً مهيباً، يتبعه مئات، كلٌّ بوسيلة نقله التي اتسعت لضعف ما كانت. في الصمت الذي يلف الموكب إلا من قطرات دمع تعكسها الشمس وكليمات ألسنة تذكره وتتذكره، في تدافع أشد لرفعه عالياً وأيادٍ تتشابك علَّها تنال "دفعة" واحدة، في أرجل تحثو سريعاً فوق التراب تتضارب مستحثة ذرات غبار تلف المسير، ثم في سباق نزول نحو حفرة يوضع فيها كما الطفل بكل عناية، بعدما غُسِّل وعُطر وأُلبِس أطهر ما لديه، قبل أن يعلوه التراب، ويعلو له الدعاء، وتسمع احتكاك أكف تتصافح، وصدور تتعانق، ونحيب يعلو تارة ويخفض، في خطوات تستثقل العودة ورقاب تنثني للوراء مع كل ابتعاد.

أما بيت الأجر -كما التسمية الشائعة لدى العامة- بعد ذلك، فما توقعت الخروج منه بنظرة معكوسة عن كونه موطناً لتضييع الزمن.

لا تسمع فيه سوى ألفاظ كـ: "نعم، غادرت إلى عمّان لوفاة جدي"، "توقف عملي لوفاة خالي"، "سأكمل ما بدأت به لاحقاً لوفاة عمي"، "لا مدارس اليوم.. توفي والدي".

ثم طراز آخر: "نعم، 100 متر وتصل"، "لا.. الإشارة التي تليها"، "سترى صيواناً كبيراً"، "النساء في الأعلى"، عدا عن صلوات متصلة، وتمرٍ وقهوة تكفي آلافاً، ومتطوع يومي يطعم الأقربين راجياً البركة، وأحاديث مكنونها واحد، ووجوه تألفها ولا تألفها حزينة لأجلك، وزيارات كثيرة من أقارب وأحباب وأصحاب وزملاء، تليها مشروعات ونوايا وكلام يتناول أقاصي الحياة، تبدأ وتنتهي باستفتاحية وختامية: رحمة الله على فلان..

ينهي كل ذلك إعلان ضمني عن ختام مراسم التكريم والأجر والعزاء والسلوان والمثوبة بختام اليوم الثالث، تذوب البؤرة التي جمعت أطراف البلدان بأطرافها، تعود الحياة مجدداً بعد أن توقفت، تذهب السيارات لتعتاد مواقف أخرى غير ما حفظت، وتختلف غايات رنات الهواتف وما تحمل، وتنطلق الطائرات عائدة بمن كان أتى.

أما عمي الذي أعلَن: لن أصمد شهراً بعد وفاة شريكة عمري، ولحقها بعد أقل من ذلك، فيكفيه من الدنيا أن فجع بأب وأم وثلاثة إخوة وزوجة وابنتين، هرماً ومرضاً وفجأة واغتيالاً، وأن فجع قبل ذلك بوطن غادره على قدميه قاطعاً الصحراء، وأن وهبه من خلقه عقلاً راجحاً، وثقافة وعلماً ومكانة ومسؤوليات وعطاء لا ينتهي، ويكفيه منا حب يسع السماوات والأراضين. أما أنا.. فيكفيني أن كنت أول حامليه، وآخر مقبّليه.
لطالما ردد: "الله يحسن ختامنا".. فأحسن الله ختامه..
يكفيك أبا بسام.. حان وقت المكافأة.

* كتبت التدوينة في الذكرى السنوية الأولى لوفاة عمي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد