ننزعج في أحيان كثيرة من الضجيج والأصوات والإزعاج أيّاً كان مصدره.. وتجدنا نتلهف للحظات من العزلة والصمت والاسترخاء بعيداً عن أجواء عصرنا السريعة المملوءة بالضجيج رغماً عنا.
نحاول جاهدين أن نسرق من ساعات يومنا ولو دقائق نخلو بها بأنفسنا ونريح رؤوسنا من صداع الضجيج سواءً داخل المنزل أو خارجه.. أحياناً كثيرة نأخذ إجازة فأول ما نفعله هو أن نهرب من واقع الإزعاج إلى واقع الراحة والهدوء.. فنذهب للبحر أو للغابة أو لقمّة جبل أو إلى مقهى بسيط خارج المدينة لا يأتيه إلا من يقصده.. نحتسي فيه كوباً من القهوة ونقرأ كتاباً كي نستشعر دفء الهدوء ولذّة السكون.
لكن غيرنا يتمنى لو كان مكاننا، يتمنى أن يتكلم مع أحد أو مع أي أحد!
يتمنى أن يسمع صوت محرّك السيارة قبل أن تنطلق في الشارع.. يتمنى أن يسمع صوت ضحك الأطفال في الشارع أو حتى عراكهم من أجل لعبة.. يتمنى أن يسمع صراخ الجيران.. أن يسمع صوت القِدر يغلي على النار تفوح منه رائحة الطعام الشهي.. أن يسمع صوت المذيع الذي يكرهه وهو يحتسي كوب من القهوة مستهزءاً به.. أن يسمع صوت جرس الباب يرنّ فلا يهدأ حتى يُفتح الباب.. يتمنى حتى لو يسمع صوت المتسولين حوله يتجاذبونه كي يعطيهم قروشاً، وأن يسمع صوت القروش تسقط في أيديهم.. أن يسمع صوت المؤذن ينادي للصلاة.
أن يسمع وأن يسمع وأن يسمع.. أن يسمع صوت الحياة! نعم الحياة.. فالحياة هي الحركة والضجيج بينما السكون والهدوء لا يكون إلا للأموات.
أتعلمون من هم هؤلاء الذين يشتاقون للحديث مع شخص أيّاً كان هذا الشخص حتى لو كان غريباً عنهم.. يشتاقون لضجيج ذلك الشارع وإزعاج أبواق السيارات وصوت الباعة المتجولين الذين الواحد منهم لو صرخ لأيقظك من نومك فلا تستطيع العودة له حتى نهاية يومك.. يشتاقون لقضاء وقتهم مغلّفين بالضجيج وليس لديهم مانع وإن ناموا وسط هذا الضجيج بل تجد لسان حالهم يقول: أريد ضجيجاً!
إنهم الأموات الأحياء، أتعلمون من هم؟ إنهم بشر مثلنا يقطنون خلف القضبان في غياهب الظلمات في سجون هي أقرب للمقابر لا بل في كثير من الأحيان تكون المقابر أرحم.. لا يرون أحداً ولا يكلمون أحداً إلا ما ندر خاصة لو كان نصيب الفرد منهم هو السجن الانفرادي.. والضجيج الوحيد الذي يسمعونه هو صوت التعذيب وأدوات التعذيب وصراخ المعذّبين ثم العودة للهدوء القاتل الذي تفوح منه رائحة الدم! أي عذاب هذا؟! أي موت بطيء يعيشونه؟!..
يعدّون أيامهم وسنينهم خلف القضبان على تهم يستحقونها ولا يستحقونها.. وفي زمننا أصبحت السجون لا متسّع فيها، لماذا؟ فهي إما لأن الإجرام زاد فأردنا أن نقضي عليه بحبسه.. وإما لأن الظلم خارج القضبان زاد فأردنا تكتيم الأفواه وإخفاء الحقائق والعدل بحبسه!
وفي كل هذا ومع كل هذا ترانا نعيش نحن في عجلة الحياة التي لا تتوقف رغماً عنا.. في حين يعيشون هم دافعين بكل قوتهم لهذه العجلة كي تتحرك!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
نحن لا ندرك نعماً كثيرة في حياتنا ولا ندير بالاً حتى لبعض منها ظنّاً منا أنها ليست شيئاً مميزاً أو عجيباً أو لربما اعتبرناها نقمة في بعض الأحيان.. أن نتكلم مع شخص سواءً تحبه أو لا هو نعمة من رب العباد.. أن تحرّك عضلة لسانك نعمة.. أن تتحرك مشاعرك فرحاً أو غضباً هو نعمة.. نعم نعمة.. نعمة أنك حيّ والنعمة الأجمل أن تكون حرّاً.. فالحرية تعني الحياة، والحياة لولا الحرية ما هي إلّا موت بطيء!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.