أشعر بعض الأحيان بأني مخضرم لعهد عالم التقنية وبالخصوص عالم التلفزيون. عاصرت عهد ما قبل التلفزيون وعهد بدايات ورود التلفزيون (أبيض وأسود)، وعهد التلفزيون الملون، وعهد التلفزيون بلازما وLCD، والآن بحمد الله وفضله أمتلك تلفزيوناً ذكياً Smart TV شاشته مقاسها 47 بوصة.
من شغفي بالتلفزيون وبرامجه فكّرت أكثر من مرة في أن أعمل متحفاً لتلفزيون على نمط متحف الشوكولاته بكولون – ألمانيا، أو متحف الشمع بأمستردام، هذه فكرتي منذ أن كنت في السادسة من العمر، فرجاءً حفظ حقوق فكرتي!
ينقل في حقي الكثير من المواقف التى سجلت وأثبتت أني متعلق بجهاز التلفزيون منذ نعومة الأظافر، لما كنت أتنبأ لهذا الجهاز من مستقبل في تكوين شخصيات البشر فكراً وعاطفة ومعلومة، وحتى سقف الطموح لدى معظم أبناء جيلي ومن يليهم من الاجيال.
تنقل جدتي الملقبة بالحبيبة (رحمها الله ) أنه ولعشرات المرات كان إخواني الكبار يسحبوني عنوة من بيت خالي حسن، منّ الله عليه بدوام الصحة، الملاصق لبيت والدي آنذاك بسبب التعلق بالتلفزيون؛ ذلك أني أستأنف مشاهدة البرامج التلفزيونية في بيت خالي في حال إغلاق ساعات المشاهدة المسموح بها في بيت أبي (حفظه الله).
طبعاً بعض الأحيان يُتخذ، بضم حرف الياء، إجراء تعسفي ضدي بسحبي من بيت خالي لأنه يكون وقت وجبة العشاء ببيت خالي أو وقتاً متأخراً من الليل؛ طبعاً الساعة ٩ يعتبر الوقت متأخراً حسب تقويم أيام زمان وعلى البيوت المجاورة مراعاة فارق التوقيت آنذاك.
ما يزيدني ولعاً بملازمة بيت خالي وأبناء خالي، أنهم يأتون إلى مدينتنا موسمياً أي في عطلة الصيف الدراسية. لكون الخال وأسرته يقطنون بلاد الكويت آنذاك.
في حالة الأيام الدراسية العادية كنت أتعنى وأكابد المشي من بيت والدي في حين كنت أتعنى ألم المشي الى محل حلاقة بوعبدالعزيز الصقر أو محل إصلاح التلفزيون الوحيد في ساحة الحي آنذاك والواقع على بعد عدة كيلومترات عن منزلنا، وبالقرب من الأسواق المركزية للحي. محل إصلاح التلفزيون على بعد خطوات من محل مصنع للألبان محلي صغير (بداية وأساس انطلاق مصنع الري للألبان في سبعينيات القرن الماضي).
طبعاً ما يشفع لي في الخروج والمشي الى هنالك هو أن هذه المحلات تقع في الطريق وبالقرب من متجر جدي الحاج علي (رحمة الله عليه).
كنت أتسمر خلف زجاج محل الحلاقة بالساعة أو أكثر لأشاهد برامج التلفزيون بالذات وقت بث أفلام الكرتون، وكان أحياناً يأتي أخي الصغير، محمد، معي للمشاهدة مع العلم أن المشاهدة صورة دون صوت. وأتذكر أنه في إحدى المرات عصّب وزمجر الحلاق بوعبدالعزيز علينا للذهاب بعيداً عن محله؛ ومع تكرار طلبه منا بالذهاب بعيداً عن واجهة محله إلا أننا كنا نطنش طلبه لاندماجنا بمشاهدة الشاشة الفضية المزروعة داخل محله للمنتظرين دورهم للحلاقة، فما كان منه ذات يوم إلا أنه فاجأنا برمي كوز كريم الحلاقه باتجاهنا من داخل محله. فاحدث ذاك الفعل غير المتوقع كسراً بزجاج محله من الداخل، وهرعنا نحن بالهرب.
مضت الأيام وانصعت لأوامر الوالد العزيز أطال الله بقاؤه في تقنين وقت مشاهدة التلفزيون الى جانب التركيز في التحصيل العلمي وزياده نمو روح المسؤولية مع التقدم في السن ونشوء اهتمامات متعددة ؛ إلا أن هناك شيئاً ما بداخلي يناديني بأن هذا الجهاز أي التلفزيون له من الإمكانيات ما لا يتصوره العقل آنذاك في تكوين الفكر للأجيال والشعوب وأكثر.
مضت الأيام والسنون وكنت أرصد النمو غير الطبيعي والتطوير المستمر من قبل المستثمرين في هذا الجهاز، وما يتعلق به من مواد وبرامج وإعلان وتسويق وترفيه وتحشيد و.. حتى انه يمكنني أن أزعم بأن جهاز التلفزيون والصناعات الإعلامية المرادفة والمساندة توظف أعلى نسبة من العمالة من القطاعات الأخرى باستثاء الإنشاء.
فضلاً أن هذا الجهاز مرر بدرجة متفاوتة من النجاح على كثير من الشعوب الكثير من المفاهيم الدينية والتاريخية والعلمية والادارية والاقتصادية والكثير من القيم والسلوكيات؛ فضلاً عن التحريض والاستغفال او حتى الاستحمار في أمور كثيرة. إنه أي التلفزيون (الاعلام) ببساطة سلطة وإن قالوا عنها سلطة رابعة. كان طموحي ومازال أن أمتلك متحفاً لتلفزيون والآن لقلة اليد طموحي اضمحل الى امتلاك برنامجاً يُبث، تكون أفكار البرنامج من لبنات أفكاري لبناء الثقة بين أبناء البشر.
لقد شاهدت حديثاً زيادة اضطرادية في عدد القنوات الفضائية التي تُعنى بشؤون مختلفة كالطبخ والرقص والغناء والدين والإفتاء والمساجلات والتغريب والترويج للعنف والتغريب والتشريق والتشنج والتلاسن وعشرات البرامج عن مسابقات الغناء ومواهب السفر ومسابقات الهجن والخرفان ومزايين الإبل، انجرف الكثير من الشباب لقوة الريح، كما هو ملاحظ في برامج كثيرة تسلط الضوء على جانب الرقص والهز واللمز و البغضاء.
بتصفح القنوات الفضائية سريعاً في ساعات الذروة ستمر على الكثير من البرامج التي لن تقدم الأمم ولن ترفع من مداخيلها الانتاجية والاقتصادية، إنما سترى على سبيل المثال برامج تهتم بالغناء والطرب ومزايين الابل ومزايين التيوس وعلى شاكلتهم التي تغرق السواد الأعظم من الناس في الإثارات والنعرات أو الإيحاءات الجنسية حتى إخمص القدمين.
ومازالت صورة النعرات التي انطلقت في ترشيح شاعر المليون للموسم السابق على إذاعة دولة خليجية ماثلة أمام ناظري. لقد جُيرت، بضم الجيم، في الكثير من الدول الكثير من الموارد المالية والمصادر الطبيعية والآن تُجير، بضم التاء، الطاقات البشرية لتلكم الدول هرولة أو ركضاً خلف سراب.
لكَم كنت أحلم بأن أمتلك قناة أو أرى برامج تلفزيونية كالتى أحلم بها لتكون على خارطة البث الإعلامي العالمي. فكم يحزني أﻻ يوجد برنامج اكتشاف مواهب أبناؤئنا في الطب أو اكتشاف مواهب أبنائنا في الرياضيات أو الفيزياء أو الفلك أو علم النفس التطبيقي أو برامج تكرس جهودها لتوطين الكلمة الطيبة التي تسوق للمشاعر النبيلة وتحفظ البشرية والكرامة الإنسانية من أعمال الشحن الطائفي أو جنون الإرهاب أو وحل السيئات أو مستنقعات الرذيلة، إنه حلم ببث برامج تلفزيونية تعمل لإيجاد حلول ولحياة أفضل للإنسانية جمعاء ومازال الحلم يراودني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.