لطالما اعتقدنا أن الوحدة العربية لا تعدو كونها حلماً نتمناه، ونحن مؤمنون بأنه لن يتحقق!
إلا أننا غفلنا عن حقيقة الأمر: وحدة الحال العربية أكبر كثيراً من وحدة الدول!
وحدة الطغاة وأشكالهم؛ وإن اختلفت ألسنهم وألوانهم، توحد آلامنا، ومآسينا، وتجعلنا نتشارك في كل الروايات البائسة عن الظلم والظلمات والأقبية والسجون والفقر والجهل والتجهيل.
كنت أنوي أن أكتب عن الآثار التي أفقدنا إياها "داعش" في تعديه على تاريخ العراق وبلاد الشام، خصوصاً بعد انتشار كبير لبعض الصور المأخوذة لتوثيق الضرر البالغ الذي طال آثار تدمر، بالرغم من أنها لم تكن الآثار الوحيدة التي دكتها قوات داعش والنظام السوري في بلاد ما بين النهرين.
تلك الآثار التي أعلم جيداً أن الطبقة العليا من ولاة الأمر الدوليين أرادوا ألا يعرف عنها ولا عن حقبتها الزمنية إلا القليل القليل.. ليأتي يوم – كهذا – يستطيعون به أن يغرقوا أراضينا بظلام حبسوه عندهم من عصور ظلامهم، ويحكوا للعالم عن العراق الساذجة، الهمجية، الفارغة، المخضبة بالدماء وحدها، دون أن يقف راوٍ ولا عالم ولا حتى هاوٍ ليعرفهم أن خضاب بغداد جاء من حبر علمائها أولاً، وأن دجلة والفرات ينهمران مثل روادها من طلبة العلم، وأن صحراءها في زمن ما تحولت لحدائق بابل!
قالوا لي كثيراً: هذا العالم الافتراضي بحر من العلم!
يبدو لي اليوم أنه بحر له جُزُر، لا يصلها ماؤه، على تلك الجزر تحيا حضاراتنا!
دُمر متحف الموصل قبل تدمر بكثير، وسُرقت آثاره، إلا أنني لم أجد لمتحف الموصل موقعاً الكترونياً، ولا صفحة على فيسبوك، ولا حساباً على انستغرام مثلاً، ولا حتى مدونة متواضعة تحكي عن كنوزه، صفحة ويكيبيديا وحيدة هي ما تمكنت من الوصول اليه أنشئت بعد تعدّي داعش على بوابات نبوخذ نصر العملاقة الساحرة.
في الحقيقة وجدت مدوناً أجنبياً أعاد لي موجة الغضب على ظلمات البعث السوري في صدري، حكى عن زيارته لمتحف الموصل ضمن وفد رسمي، لم تكن هذه مدونة إعجاب بقدر ما كانت مدونة صدمته الحضارية، إذ إنه لم يجد على بوابة المتحف سوى 3 من الأمن، غالب الأمر أنهم وضعوا لحماية وفدهم الرسمي "الأجنبي"، لم يكن هناك أية إجراءات لحماية الآثار من العوامل البيئية المضرة به، ولا أي اهتمام بالمكان الذي يعود إلى آلاف السنوات قبل الميلاد!
رنّ في أذني مباشرة حديث تكرر كثيراً بيني وبين والدي، عن أستاذ جامعي كان يحاضر في جامعة دمشق في أولى سنوات البعث، اخترع ونفذ سيارة ذكية تسبق زمانها بكثير، توفر الطاقة ومصنوعة من ألياف تستعمل اليوم بعد عقود طويلة من تلك الحادثة، وضعها في ساحة "فيكتوريا" العامة ليراها المارة ويستلهم منها المخترعون الآخرون، بعد يومين لا أكثر، اعتقل البعث صاحبنا، وخربت سيارته وأحرقت تصاميمها وأبحاثها وكل ما يمت إليها بصلة، لم يعرف عنه أي شيء من ذلك التاريخ حتى يومنا هذا.
ليست هذه وحدها روايات ظلمات البعث، حكى لي صديق أيضاً عن دراسة قام بها مع زميل له معماري لتنشيط وتشغيل موقع أثري في دمشق حول إلى ما يشبه الخرابة، فأعتقلهم الأمن حال تقديمهم طلباً في التنفيذ.
في زوايا ذاكرتي الآن تنبض صور لقلعة صلاح الدين في حمص، تلك التي لم ترمم منذ عقود، ولم توضع فيها أية تدابير للسلامة، ولا حتى غرفة إسعافات أولية مع أن غالبية السياح يصابون في رؤوسهم بسبب منحدرات القلعة التي لم ترمم، وكيف أن الأسد رفض تباعاً مشاريع لتشغيل القلعة، والسؤال الذي كان يواجه كل من يفكر في الأمر: لصالح مين بدك تشغلها؟ مين باعتك؟
خلاصة الأمر أن "داعش" لم يدمر وحده آثار بلاد الشام، نحن إذ لم نضع في كتب التاريخ أي ذكر لحضارات المشرق العربي دمرناها، ونحن إذ أبقينا على حكام الظلام في مناصبهم عقوداً طوال اغتلنا حضاراتنا، ونحن إذ لم نسجل أي بحث ولا كتاب ولا منشور ولا مطبوعات تستحق الذكر ولا فيلماً واحداً يحكي قصة النور المشرقي حطمنا آثارنا وسحلناها في ساحات الغرب العامة.
رايات داعش السوداء إنما هي ثمرة الرداء المعتم الذي رضيناه لنا لباساً لأمد طويل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.