“عساكر قوس قزح” لأندريا هيراتا.. قصة المنسيين

بمعزل عن العاطفة، وبلا تكلف في الرواية، ثمة مقاطع تستحق الوقوف عندها طويلاً، والتأمل في فكرتها. كونها تتضمن قوة دافعة تدفعك لطرح العديد من التساؤلات.. وكأن لسان حال "إكال" هو لسان حال أي فرد منا إذا اختلى بنفسه وحاول رسم معالم الشخصية التي أصبح عليها مقارنة بالشخصية التي صبا إلى أن يكونها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/03 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/03 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

بينما كانوا ينتظرون معملتهم في المدرسة المحمدية ليبدأوا دروسهم، رآها من شقوق الحائط وهي تحتمي من الأمطار بورقة شجرة موز، وبين حين وآخر تتوقف تحت شجرة أخرى، فقطع وعداً على نفسه بأنه سيكتب لمعلمته كتاباً يخط فيه جهودها ومثابرتها، لتمر السنون وتذكره تلك المعلمة، والتي رآها مرة أخرى أثناء عمله التطوعي في منطقة تدعى أتشيه ضربها تسونامي، كانت ترتدي جلباباً وتحمل لوحة كتب عليها "تعالوا لا تتخلوا عن المدرسة" ذكرته بوعده الذي قطعه على نفسه، فكان عساكر قوس قزح.

"بو مُس" التي بدأت التدريس وعمرها خمسة عشر عاماً فقط، فضلت التدريس بلا مقابل على أن تعمل بوظيفة بمرتب جيد وقالت: أريد أن أصبح معلمة، تعمل بالخياطة ليلاً وصباحاً في مدرسة المحمدية، يقول أندريا عنها "لم أرَ في حياتِي قط أحداً يعشق التدريس كعشق "بو مُس" له، ولم أرَ أحداً سعيداً بعمله مثلها..".

في إحدى الأمسيات بعد يوم حافل بالمطر الغزير، افترش السماء من ناحية الغرب قوس قزح مثالي، تجلى على شكل نصف دائرة باهرة الإشراق تضم سبعة أطياف من اللون. انبثق من دلتا "الجينتانغ" مثل سجادة متلألئة، وامتد ليزرع نفسه في غابة الصنوبر عند جبل "سوليمار". وأصبحت عادة لدينا أن نتسلق الشجرة بعد كل عاصفة ماطرة؛ بحثاً عن قوس قزح. ولهذا السبب، أطلقت علينا "بو مس" اسم "عساكر قوس قزح".

الرواية تحملنا إلى أجواء بلاد جنوب شرق آسيا، البلاد التي تمتزج فيها الأساطير بالأديان، غير أنها مبنية على أحداث حقيقية، إنها رواية إنسانية ملهمة، بكل معنى الكلمة، ورائعة في بساطتها لصدقها وغرابة واقعها.. والصراع من أجل البقاء، إنها تحكي قصة أحد عشر طالباً في مدرسة المحمدية ومعلمهم "باك هرفان"، ومعلمتهم الصغيرة "بو مس" التي كتبت الرواية لأجلها وإصرارها العجيب على تعليم الطلبة بشتى الطرق والتفاني في ذلك، رغم أنها تعمل بلا مقابل.

كل طالب له حكايته، "لينتانج" العبقري الذي أرسله أبوه ومعه قلم من النوع الذي يستخدمه الخياطون ليحددوا العلامات على الأقمشة، ومع ذلك فإن كل ما كتبه هو ثمرة ذهن متقد، أظهر عبقرية كبيرة في كل العلوم، أعجوبة في تعلم اللغة، الفيزياء، الرياضيات، وهو في سن صغيرة جدًّا، إصراره أن يغير واقعه، وأن يكون شيئاً تفتخر به أسرته على الرغم من فقرهم الشديد.. إنه أكثر من تأثرتُ بهم.

كوتشاي الصبي الوديع، صاحب الوجه اللطيف، والمظهر الذكي، المزيج الذي تتكون منه خصائص "كوتشاي": الانتهازية، والأنانية والخداع، فضلاً عن تصرف العارف والصفاقة، هذا المزيج استوفى جميع الشروط ليكون عرِّيف الصف. وحين أدرك أن لديه هذه المميزات، امتلك تطلعاً ليكون عضواً في الجمعية التشريعية الإندونيسية وسهاري المزاجية.

البنت الوحيدة في الصف، حازمة ومباشرة، ولا تكذب مطلقاً، و"تراباني" الأمير الوسيم يجلس دائماً عند الزاوية، وجه وسيم، من الفتيان الذين تقع البنات في غرامهم من النظرة الأولى.. شعره وبنطاله وحزامه وجواربه وحذاؤه اللامع لطالما بدا كل ذلك نظيفاً ومرتباً.

و"مهار" المهووس بعوالم الغيب الموهوب بالغناء، "آكيونج"، الفتى الكونفوشيوسي الذي يدرس في مدرسة المحمدية الإسلامية؛ لأنه فقير جداً ويعجز بسبب فقره عن الذهاب لأي مدرسة أخرى! "هارون" المصاب بمتلازمة داون، "بوريك" المهووس بكمال الأجسام، والذي يحمل لقب شمشون، ولن ننسى بالطبع "إكال" البطل الذي يروي القصة.

كل منهم يحمل حلماً، رغم أن الحياة لم تكن سهلة للجميع، من منهم حقق حلمه؟ وكيف؟ ومن منهم لم يفعل؟ ولماذا؟ هذا ما تحكيه الرواية.. إنها قصة كفاح بالرغم من الفقر المدقع، والإصرار على العلم والرغبة في تغيير الواقع.. إنهم لم يتعلموا العلم لأنه فرض عليهم بل تعلموه حبًّا وعشقاً.

المدرسة تقع في جزيرة "بيليتونغ" الصغيرة والغنية في إندونيسيا، بسبب كميات القصدير في أعماقها. "تحت البيوت القائمة على الركائز حيث عشنا حياتنا المحرومة، قبعت طبقات وطبقات من الثروة. وكنا نحن، أهالي "بيليتونغ" مثل مجموعة جرذان تتضور جوعاً في مخزن يغص بالأرز".

جاء التهديد الأول الذي عرّض مدرسة المحمدية لخطر الإغلاق؛ بسبب قلة عدد الطلاب، أما التهديد الثاني، فتمثل في رغبة مفتش المدارس العام في إغلاق المدرسة بسبب حالتها المزرية.

أما ذروة القصة، فتبدأ مع التهديد الثالث بإغلاق المدرسة، بعدما أشارت خرائط مكتب مسح الأراضي التابع لإحدى الشركات إلى مدرسة المحمدية. وتلقت المعلمة رسالة، عما قريب ستأتي الجرّافات لتبدأ أعمال التنقيب عن القصدير تحت المدرسة، إذ انتهجت الشركة أسلوب الاستغلال والابتزاز، لكن رد فعل الطلبة والمدرسين لمواجهة الفساد والظلم ومحاربة الجهل يوماً بعد يوم هو المذهل..
بمعزل عن العاطفة، وبلا تكلف في الرواية، ثمة مقاطع تستحق الوقوف عندها طويلاً، والتأمل في فكرتها. كونها تتضمن قوة دافعة تدفعك لطرح العديد من التساؤلات.. وكأن لسان حال "إكال" هو لسان حال أي فرد منا إذا اختلى بنفسه وحاول رسم معالم الشخصية التي أصبح عليها مقارنة بالشخصية التي صبا إلى أن يكونها.

يقول هيراتا عن روايته: "يشرفني حقًّا أن أضع روايتي عساكر قوس قزح بين أيديكم. وأتمنى لكم في رحلتكم أن تستمتعوا بقصة من قريتي في جزيرة "بيليتونغ" الصغيرة، الجزيرة المجهولة التي لا تكاد من صغرها تظهر على الخريطة. قصتي هي قصة الناس المنسيين، وصوت من لا صوت لهم. آمل أن تجدوا ما يجذبكم في جمال الطفولة، في المعلمة الصبية المهمّشة وتلاميذها وهم يحاربون أعداء لا يقهرون، ويكافحون من أجل العلم، ومن أجل الكرامة. وأن تجدوا البهجة في أحلام أولئك الأطفال المفعمة بالطهر والبراءة، وفي مرارة الحب الأول الحلوة".

أحداث الرواية وتيرتها ثابتة نوعاً ما، تنقسم إلى 47 فصلاً، كل فصل يحكي حدثاً ما، رغم أنها ليست مشوقة، وربما ستمل منها في البداية أو منتصفها، إلا أنك لن تندم على قراءتها أبداً، عيبها الوحيد أنها كانت يمكن أن تترجم بأسلوب أفضل!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد