الانتماء كلمة نستخدمها كثيراً ونسمعها مرات عديدة كل يوم في أماكن مختلفة، نسمع عن الانتماء للدين والوطن أو مجموعة ما، ودائماً ما نسمع أيضاً أنها صفة حميدة وخصلة إنسانية تدل على الوفاء والإخلاص للشيء الذي نؤمن به. لكن لماذا نُخلص لذاك الشيء؟! لأننا ننتمي إليه، ولمَ ننتمي لذلك الشيء دون سواه؟ لماذا اخترنا ديناً معين وليكن المسيحية مثلاً وليس البوذية؟ لماذا مثلاً ننتمي لأرضنا والكثيرون يموتون دفاعاً عن أراضيهم أو دفاعاً عن معتقداتٍ لهم، أو حتى يقتلون في سبيل حزبٍ ما في دولةٍ ما؟
يقول عالم النفس الأميركي "ديفيد ماكليلاند"، إن الانتماء هو حاجة أساسية للبشر. إذا لكل إنسان الخيار بالانتماء لشيء ما، بالقدر الذي يريد، فقد يستطيع تبني أفكار ما ينتمي إليه أو ربما مساعدة من كان لهم ذات الانتماء أو قد تصل لدرجة الموت في سبيل ما ينتمي إليه. فما هو هذا الانتماء؟ ما طبيعته هل نحن حقاً بحاجة للانتماء لشيء ما؟ هل هو فطرة آدمية أم صنيعة دخيلة على حياتنا؟!
بنظرة سريعة جداً على الطبيعة البشرية.. نرى أنه لطالما صنع البشر الاعتقدات، الأديان، الأعراق، القوميات، الأفكار، الفلسفة، الأيديولوجيات السياسية، الجماعات، المناطق، والكُنى والقبائل؛ ليتبنوا فئة معينة من تلك الأشياء ويُعرفوا أنفسهم بها لأشخاص ومجوعات آخرى صنعت وتبنت انتماءات مختلفة.
الانتماء اصطلاحاً: هو الانتساب حبًّا و فكراً لشيء ما أو الاندماج بمجموعة ما وتبني أفكارها.
أعرف شخصاً وُلد في كندا، ولكن أبويه تونسيا الجنسية، وعاش ذاك الشخص أكثر من عشرين عاماً لم يزر تونس ولا مرة خلالها، لكنه يملك شعوراً بأنه لا ينتمي لحيث وُلد وترعرع، وأنه دائماً ينتظر العودة يوماً ما إلى أرض انتمائه.. أرض أبويه تونس.
ربما يكون فهم (تعرف) الانتماء سهلاً للغاية، لكن الصعب جداً معرفة أصله إن كان فطريًّا أم مكتسباً، ومعرفة إن كان للبشر القدرة على العيش دون الانتماء. على سبيل المثال، يمكن أن نرى الكثير من البشر غير المنتمين لدولة أو أرض، لكن يجمعهم انتماؤهم بعرق معين كالغجر، لربما تجد أيضا من تخلى عن انتمائه الديني وألحد، ولكنه بالإلحاد قد انتمى لمجموعة من البشر الملحدين، والذين سيُعرف نفسه على أنه واحد منهم، وقد تختلف درجات الانتماء كما ذكرت سابقاً أي فقد يقول: أنا من الملحدين، لكن أختلف مع بعضهم بتعريفات معينة مثل اختلاف السنة مع الإسماعيلية أو الأقباط مع المارونية.
هل من المستحيل إذاً التخلي عن انتماء ما دون تبني آخر؟ فقد نتخلى عن انتمائنا القومي أو العرقي، لكن ننتمي لمجموعة دينية أو العكس أو قد يبحث البعض عن من له مثل اعتقداتهم لينتموا إليهم أو أشخاص ربما لديهم مرض أو حاجة، فيبحثون عن من له مثل حالتهم، فقد يجمعهم مرضهم المشترك وتوحدهم آلامهم بمجموعة، ما يشعرهم بالراحة والاطمئنان أكثر من كونهم وحيدين يعيشون بمحيط لا يوجد فيه من يشاركهم نفس الحالة..
نُشر بحث أجراه شاكتيرعام 1959 بالمجلة الأوروبية لعلم النفس الاجتماعي، فحواه أن الخوف الناجم عن شيء محدد عند شخص ما، يزيد رغبته وحاجته للانضمام لآخرين عاشوا أو جربوا نفس الخوف.
ثم إن استطعنا التخلي عن معظم الانتماءات هل نستطيع التخلي عن الانتماء البشري؟! لو وُجد طفل ولد بغابة وتربى وحيداً مع حيوانات من فصيلة ما، ثم بعد سنوات طويلة رأى بشراً، هل سيشعر أنه لا ينتمي لمجموعة الحيوانات تلك وأنه من فصيل آخر؟!
للإجابة على هذا السؤال صعوبات كثيرة وتخمينات كثيرة، نعم إن الانتماء هو الانتماء حباً وتفضيلاً لشيء ما دون غيره، فقد يفضل ذاك البشري الانتماء للحيوانات دون البشر، فالانتماء يكون للشيء الذي نفضل. ولكن السؤال الأصعب هل للبشر القدرة على العيش دون انتماء (أبداً). لنفرض أننا تخلينا عن كل الانتماءات وبدأنا بتفيسر الظواهر من حولنا بتجرد ماذا سيكون سبب وجودنا؟ فمثلاً من ينتمي لفكرة الإيمان يعتقد بأنه هنا لعبادة الله، وأن لكل شيء في الكون مهما كان صغيراً أو كبيراً سببٌ للوجد بتفسيرٍ إلهي. فبماذا سيفسر اللامنتمي سبب الوجود إن تجرد من كل الانتماءات؟! فهو الآن لا ينتمي للؤمنين ليتبنى تفسيرهم ولا ينتمي للملحدين فيتبنى تفسيرهم ولا لفلاسفة قالوا يوماً إن الوجود ضربٌ من عبث محض.
إذاً هل بالإمكان تفسير ظاهرة ما دون الانتماء لفكرة سابقة أو إنشاء فكرة جديدة وتبنيها؟! لنفرض أيضاً أن ذاك اللامنتمي قرر عدم تفسير الظواهر من حوله واتخذ ذلك كنظرة للحياة، ألا يكون وقتها قد أنشأ فكراً جيداً يعتقد به وينتمي إليه، أليس بكونه لامتنمياً يكون قد انتمى لللاانتماء؟!
تسأولات وفرضيات فلسفية كثيرة حول الانتماء، ولفهمه أكثر لا بد من الغوص بعلم النفس والفلسفة وطبعاً البيولوجية والتحليل الجيني. ولهذا حقاً لا يمكننا أن نعلم ما إذا كان الانتماء حاجة أساسية فطرية أو مكتسب متطور عبر العصور مع ازدياد أعداد البشر ونشوء القبائل والقوميات والشعوب.
وبما أن الانتماء شيء لا يمكن تجنبه بالحياة اليومية، إلا أنه لا بد من تجسيمه والحد من مضاره، كما يقول مرشدو الصحة عند نصحهم للوقاية من مرض ما. لكي لا يقودنا لتهميش من يختلف عنا وكرههم، ففي بعض الأحيان يتحول الانتماء إلى تعصب، فكم من المرات رأينا أشخاص يتصارعون فقط لانتمائهم لمجموعات مختلفة، والمرض أخطر من ذلك، فعبر العصور كم شهدت البشرية من مجازر وحروب راح ضحاياها الملايين، جراء اقتتال عرق مع عرق آخر، دين ضد دين يناهضه أو مذهب مع آخر يختلف عنه. كم رأينا التعصب للانتماء يقود الإنسان لقتل صديقه وأخيه، كم تركنا وتخلينا عن أشخاص لاختلاف انتمائهم عنّا، وكم وكم..
ويتدرج مرض التعصب للانتماءات ليصل للتصنيف، فيبدأ الشخص بتصنيف البشر إما معه أو ضده، إما من حزبه أو من حزب آخر، إما من قبيلته أو من أخرى ويعامل الناس على هذا الأساس. لا بد أن تكون قد واجهة شيء من ذلك في مسيرة حياتك، فربما تُرفض من عملك؛ لأن توجهك يختلف عن توجه مديرك أو قد لا تُقبل بوظيفة حكومية؛ لأنك لست منتمياً للحزب الحاكم، وقد لا يتقبل بعض الأصدقاء اختلاف انتمائك عنهم فينسحبوا من حياتك. ولذا في بعض الأحيان نحاول إخفاء انتماءاتنا أو آرائنا عن بعض الناس لخوف خسرانهم أو خسران وظائفنا، ولكن مرض التصنيف متفشن في معظم المجتمعات، فلا بد لأي إنسان يعاملك أن يصنفك أولاً، ثم يعاملك على أساس تصنيفه لك..
ربما قد واجهت أيضاً نقاشاً مع صديقٍ جديد، وفي الأحاديث الأولى يكثر السؤال عن أي الأحزاب أو التوجهات تفضل، أو عند انتقادك لفكرة ما يقول محاورك إذن أنت ممن ينتمي للفكرة الأخرى! قد لا تنتمي بالضرورة للفكرة الأخرى لكن أمراض التصنيف تقود لمثل هذا.
إن أمراضًا مثل التعصب والتصنيف قد تفشت وسادت بين الناس بمختلف المجالات، وقد تتفاوات بالأنواع والدرجات، لكن لا بد من السيطرة عليها بالوعي، إن من يختلف عنا بانتمائه هو إنسان أيضاً، وله الحق في ذلك ولنتقبل من هم من نفس جنسنا البشري، ولنحظى بحياة أقرب للعدل والموضوعية لنرتقي بانتمائنا الإنساني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.