مهمّة الجيوش هي مواجهة المعتدين وحماية تراب الوطن، فإذا كُلِّفت بمواجهة زيادة الأسعار، وتوفير السّلع، ومواجهة أزمات التّضخّم، وآثار الغرق الاقتصادي؛ فهذا إعلان رسمي عن مرحلة اللّادولة، وأنّنا إزاء دولة الجيش لا جيش الدّولة، وأنّ كلّ مؤسّسات الدّولة لا حيلة لها ولا دور.
الأزمة الكُبرى أنّ هذه العقليّة وهذه التّوجيهات والتّكليفات هي الّتي تُعمّق الغرق الاقتصادي والاجتماعي بلا أدنى شك، فضلًا عن إنهاكِ المؤسّسة العسكريّة وإضعافها لانغماسها في شؤون السّياسة والحكم والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتفريغها من دورها الرّئيس المنوط بها.
أضف إلى هذا أنّ أحد أهمّ أسباب الرئيسيه للغرق الاقتصادي الحالي هو السّطو العسكري المُسلّح بقيادة الجنرال سيسي على مؤسّسات الدّولة المصريّة المُنتخبة والوليدة و الّتي لو قابلنا، مع التّسليم بعناصر ضعفها وسلبيّاتها وأخطائها، كلّ مؤشّرات أدائها الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي وفي مجال الحقوق والحريّات فلن نجد أبدًا مجالًا للمُقابلة بما آلت إليه الأوضاع الآن. فأنّى لعوامل الغرق أن تتحوّل إلى عوامل نجاة؟ وأنّى لمن تسبّب في الدّاء أن يكون هو الدّواء؟!
هذا التّصوّر عن أحوال السّياسة والاقتصاد والاجتماع يُماثله تصوّر آخر في مجال الطّب والبحث العلمي حين ننتظر من جهازٍ أن يُبرئ المرضى ويُقاوم أقوى الفيروسات فتكًا بحياة البشر؛ لأنّه صُنِع -فقط- بأيدي القوّات المُسلّحة الّتي يجب عليها توفير الرّعاية الصّحيّة للمواطنين -تمامًا- كتوفير الرّعاية الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّذي يجري الحديث عنها الآن؛ ولأنّ الإعلام الموجّه والجنرال وقادته احتفلوا به واحتفوا بصاحبه اللّواء عبد العاطي صاحب جهاز علاج " الكفته" الشهير.
الجنرال سيسي بدّي ساعياً – كما يسعى دائمًا ومنذ اليوم الأوّل لانقلابه العسكري على منظومة الحكم الدّيموقراطي- لإثبات تمترسه خلف المؤسّسة العسكريّة ؛ لحماية نفسه أوّلًا، خصوصًا بعدما تبيّن فشله وضحالته. هذا أمر بالغ الخطورة على مُستقبل المؤسّسة العسكريّة المصريّة؛ فقد خرج مكلفًا الجيش المصري مُعالجة آثار الغرق الاقتصادي الّذي قاد البلاد إليه وموجّهًا لها بتوفير السّلع الغذائيّة ومُواجهة آثار إعلان البنك المركزي بوفاة الجنيه المصري إزاء الدّولار، و الّذي يُشيرُ إلى مرحلة جديدة من التّضخّم والغلاء والتّدهور الاقتصادي والاجتماعي العارم.
ليس لدى المؤسّسة العسكريّة القدرة على انتشال مصر من غرقها الاقتصادي الحالي، ولا تستطيع تأدية تلك الوظيفة الّتي لا تدخل في نطاق مهامها ولا هي مؤهّلة لها، إضافةً إلى أنّه لا يجب أن تستمرّ في تلقّي صدمات فشل الجنرال سيسي و تحمل أعباء فشله ، وهو المفترض انه يُسيطر سيطرةً كاملة على مفاصل السّلطة كافة و أجهزتها التنفيذيه، أو هكذا يدّعي ويسعى. ما الذي يعيقه عن الإنجاز إذاً ؟!
أزمة مصر سياسيّة في الأساس، وإذا ظلّ الإمعان في تجاهلها والقفز على أسبابها الحقيقيّة؛ فإنّ -ويا للأسف- الاقتصاد المصري سيستمرّ في الغرق ثمّ الغرق بحثًا عن قاعٍ جديد كل يوم حتّى لحظة الانهيار التّام والإفلاس العام. حتّى لو تدفّقت مليارات النّفط الخليجيّة (الرّز) مجدّدًا أضعاف ما أُنفِق منها لمُحاولات تثبيت دعائم انقلاب السّيسي؛ فستتبخّر مُجدّدًا كما تبخّرت سابقتها دون جدوى؛ ولكن مُعدّل تبخّرها سيكون أسرع بكثير هذه المرّة نظرًا لتفاقم الأزمة الاقتصادية وتراكماتها الطّاحنة الّتي تشهدها البلاد، وستُصبح مصر في وضعٍ أسوأ مما هي عليه الآن، وأكثر مديونيّة للمُستقبل. إضافةً إلى أنّ من دعم الجنرال سيسي وانقلابه العسكري بسخاءٍ نادر في الماضي القريب يبدو غير قادرٍ لأسبابٍ كثيرةٍ ومُختلفة على الاستمرار بالوتيرة نفسها.
في ظلّ الغرق والسّقوط المحتوم القادم، يجدرُ بالمؤسّسة العسكريّة أن تدرك أن تمترس السّيسي خلفها في مراحل غرقه الآن لا ينبع إلّا من رغبةٍ شخصيّةٍ بربط مصيره بها، و هو ما يحملها ثمنًا مُستقبليًّا باهظًا؛ إذ أنّ غرقه بدأ ومصيره محتوم. حلول مصر السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة -كما أتصوّرها- تحتاجُ إلى خطواتٍ يُمكن تخليص خطوطها العريضة في:
1.عودة الحياة المدنيّة، والمسار الدّيموقراطي، ومُكتسبات ثورة يناير.
2.رجوع المًؤسّسة العسكريّة خطواتٍ إلى الخلف لتأدية دورها الحقيقي بعيدًا عن الحكم والسّياسة والاقتصاد.
3.مسارُ عدالة انتقاليّة جاد و ناجز و محاسبة كل من أراق دماً مصرياً أو قام بأيٍ من الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم.
4.استعادة أجواء الحريّات وصيانة الحقوق.
5.مُصالحة مجتمعيّة لاستعادة وحدة بناء المُجتمع المصري الّذي هو عماد الأمن القومي وعماد أيّ تقدّم مأمول.
6.إعادة هيكلة مؤسّسات الدّولة لتأدية وظائفها لمصلحة المواطن لا مصلحة أيّ سلطة حاكمة.
7.مبادئ ثورة يناير هي بوصلة التّغيير، وقاعدة تنطلق منها مرحلة جديدة تُحقّق حوكمة المؤسّسات المصريّة، والتّوازن بين سلطات الدّولة.
8.المواطن المصري أساس ايّ تقدّم، والاهتمام بالتّعليم وبرامج الرّعاية الصّحيّة، وتوفير الحياة الكريمة وفرص العمل أساس النّجاح.
9.الابتعاد عن كلّ ما هو (أيدولوجي) لصالح كلّ ما هو وطني في خلال مرحلة انتقاليّة مُحدّدة يتشارك فيه الجميع في وضع رؤية إدارة الدّولة و تحمل أعباء التغيير و كلفته.
10.وقف نزيف الفساد ومُحاربته ومُعالجة عاجلة لملفّات الثّروات المصريّة الطّبيعيّة المُستقبليّة الضّائعة (الطّاقة والمياه)، وثروات المصريّين المالية المنهوبة والمُهرّبة إلى الخارج.
إلي أن يتحقّق هذا -ومن باب النّظر إلى نصف الكوب المُمتلئ- فإن الدّلالة الإيجابيّة الوحيدة لهذه التّصريحات الرّسميّة للجنرال سيسي هي أنّنا إزاء فرصة عظيمة لتوفير نفقات مُهمّة جدًّا ومُكلّفة، من الموازنة العامّة للدّولة؛ فشريف إسماعيل وحكومته وبرلمان الأجهزة الأمنيّة ديكور باهظ الكلفة لا قبل لموارد الدّولة لتوفيرها الآن. لا حاجة لبقائهم إذًا ما داموا هم الّذين تسبّبوا في الأزمة الّتي كُلِّف الجيش بحلّها. يُمكنهم أن "يُصبّحوا" على مصر بعشرات الملايين من الجنيهات يوميًّا بمُرتّباتهم ونفقاتهم. لا أعلم كيف يُمكن تخيّل مواقف المُتشبّثين بوظيفة ساعي البريد لجنرال عسكري أخرق مصمّم على إغراق البلاد؟! في الحين الّذي لا يزال هو مصرّ على اتّهام ساعي البريد وتحميله أسباب الفشل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.