دفن الثورة في جنيف

وفي نهاية الأمر سيرى كل هؤلاء أن النظام الذي قتلهم بالجملة أيام الثورة، سيعود إلى قتلهم بالتقسيط كما كان يفعل قبل 18 مارس/آذار 2011، وسيفعل إذا حدث واستطاعوا دفن الثورة في "جنيف".

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/21 الساعة 02:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/21 الساعة 02:34 بتوقيت غرينتش

على عكس كل المتفائلين أنا لا أرى أن نظام بشار الأسد في أسوأ حالاته، ولا أستطيع أن أصدّق أن الروس تخلوا عنه، وأنهم سيفرضون عليه التنازل والتنحي، ولا أعتقد أن إيران بدأت بسحب الحرس الثوري من سورية، وأن هناك خلافاً كبيراً بين الإيرانيين والروس حول سورية، ولا أظن أن حزب الله قد بدأ بالتخلي عن الأسد والانسحاب من المعركة السورية، ولم أشاهد (رغم تحديقي الطويل) الهالات السوداء المحيطة بعيون رجالات النظام، تعبيراً عن حالة الأرق والقلق التي يعيشونها بسبب تخلي حلفائهم عنهم، ورغبة المجتمع الدولي بفرض حل في سورية ليس فيه مكان لبشار الأسد.

هذا السيناريو الولاّدي مع كل التفاصيل التي تُلحق به من خلاف بين ماهر وبشار الأسد، وإفلاس الروس اقتصادياً، وتزايد عدد قتلى مليشيات حسن نصر الله الذي يدفعهم للانسحاب، وعدم الثقة والاقتتال بين مليشيا نصر الله وجيش الأسد، ورغبة المجتمع الدولي بالوصول إلى حل، قد يكون فرحاً ومفرحاً لشعبي فيسبوك وتويتر، لكن الأمور واقعياً أكثر مأساوية وتشاؤماً مما تظهر في مرآة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وما يحضّر لثورة السوريين أقسى وأدهى بما لا يقاس بما مرّ بهم خلال السنوات الخمس الماضية، وما لم يستطع النظام وحلفاؤه ومعهم المجتمع الدولي أن يحصلوا عليه في المواجهة العسكرية المباشرة، سيحصلون الحصول عليه بخطة متعددة الأطراف والأشكال، وافقت عليها كل الأطراف اسمها اجتماع فيينا وقرار مجلس الأمن 2254.

أنا أرى ما جرى ويجري بصورة أكثر تشاؤمية من الفرح الساذج الذي يتحدث به الكثيرون اليوم عن عودة المظاهرات والهتافات في شوارع المدن السورية، ويعتبرونه انتصاراً لإرادة الشعب السوري، وأن اللحظة اليوم صارت مناسبة لحل ظاهره انتصار للثورة ومضمونه هزيمة ساحقة لها.

فعبر خمس سنوات استطاع سفراء الدول الغربية الذين اشتغلوا على تشكيل الكيانات السياسية التي ستمثّل الثورة، ومعهم مدراء مخابرات الدول العربية والغربية التي رعت هذه الكيانات ودعمتها مالياً واحتضنتها لوجستياً، إضافة لحالة الرخص والشره للسلطة والمال الذي حكم معارضي نظام حافظ وبشار الأسد التقليديين، وكمية العملاء الذين اخترقت بهم أجهزة مخابرات الأسد تشكيلات المعارضة تحت اسم منشقين.

استطاعت هذه العناصر الرئيسية الأربعة أن تغيّر نهائياً وجوه ممثلي الثورة، وبتنازل منظّم ومدروس استغرق خمس سنوات ليصل من "برهان غليون" إلى "رياض حجاب"، بعد المرور ب"عبد الباسط سيدا" وأخيراً "جورج صبرة" بعد أن أحيل المجلس الوطني إلى التقاعد، ثم "معاذ الخطيب" و"أحمد الجربا" و"هادي البحرة" و"خالد خوجة"، وفيما بعد "أنس العبدة".

بعد أن تم تنسيق ائتلاف المعارضة لصالح الهيئة العليا للمفاوضات التي تضم أكبر وأوسع تمثيل لفلول النظام وسماسرة الدول المحيطة بالقضية السورية، ومن ينظر اليوم إلى وفد المعارضة المفاوض في جنيف، ويشاهد "رياض حجاب" و"رياض نعسان آغا" و"بسمة قضماني" و"هند قبوات" و"يحيى العريضي" و"مرح البقاعي" و"فرح الأتاسي" و"يحيى قضماني" وسواهم، لا بد وأنه سيفرك عينيه كثيراً ليتأكد ما إذا كان هؤلاء وفداً للنظام أم للمعارضة!؟

الخطة ذاتها التي غيّرت في تمثيل الثورة، ليتحدث باسمها مسؤولون سابقون للنظام، أو مندبو دول لاعبة في الموضوع السوري، هي التي فرضت هدنة لتدفع السوريين الذين عاشوا خمس سنوات تحت القصف والموت والدمّار، للتعوّد على الهدنة، والمقارنة بينها وبين أيام القتل والقصف، وهي التي سمحت بخروج مظاهرات ورفع رايات وإطلاق هتافات، كان النظام يرد عليها بالرصاص في السابق، لكنه يصمت أمامها اليوم، ليشعر أصحابها بأنهم انتصروا (ولا يقل لي أحد رجاءً بأن هذا النظام تحول فجأة إلى حمل وديع أو أنه يراعي هدنة أو ميثاقاً).

وهي ذاتها التي أعلن في إطارها الروس سحب قواتهم من سورية لمنح الحل السياسي فرصة، مع أنهم لازالوا يقصفون، وهي ذاتها التي كان جزءاً من بنودها تسريب معلومات عن انسحاب إيراني أو لعناصر حزب الله من سورية.

وهي ذاتها التي تم ويتم فيها شيطنة التشكيلات الثورة التي قاتلت النظام خلال الخمس سنوات الماضية واحداً اثر الآخر، وتحويل هدف المعركة من مواجهة بشار الأسد إلى مواجهات بين تلك التشكيلات المقاتلة بمختلف الحجج والذرائع.

وهي ذاتها التي ستفضي حكومة وحدة وطنية بين النظام والمعارضة، سيسمح لوفد هذه الأخيرة بتسميتها هيئة حكم انتقالي لإرضاء جمهورهم، وسيتم فيها تقاسم البيدر بالنصف في موضوع الرئاسة، بحيث يتفق النظام والمعارضة على انتخابات، لن يمنع بشار الأسد من المشاركة والفوز فيها، وسيفوز باعتبار النظام هو سيد من يدير انتخابات بطريقته، وسبق لبشار الأسد أن أجرى بروفة انتخابات إلى جانب مرشحين آخرين في انتخاباته الأخيرة وفاز فيها.

وبالطريقة نفسها التي تم فيها تغيير هدف الثورة وخفض سقف مطالبها وتبديل ممثليها واختراق تشكيلاتها العسكرية وشراء ذمم ناشطيها وإعلامييها عبر سنوات، سيخضع تنفيذ تلك الخطة المعلنة إلى أخذ ورد، ومدد غير محددة لتنفيذها.

ليستيقظ بعدها الذين يقولون اليوم تعبنا من الحرب (وهو كلام حق يقصد بترويجه اليوم إبقاء بشار الأسد) على صورته فوق رؤوسهم.

ويستيقظ فيه الذين اعتبروا أن معركتهم اليوم هي رفع علم الاستقلال الأخضر، أن ما يرفرف فوق رؤوسهم ويؤدون له التحية هو علم النظام الأحمر، ويستيقظ الذي ساهموا في نشر كذبة رجال الدولة في الهيئة العليا للمفاوضات بأنهم مجرد موظفين صغارًا ويباعون ويشترون بثمن رخيص، وأن هذه الميزة بالذات هي التي جعلتهم مسؤولين في أجهزة النظام، وموظفين صغار تالياً عند الدول الأخرى التي فرضتهم على الثورة.

وفي نهاية الأمر سيرى كل هؤلاء أن النظام الذي قتلهم بالجملة أيام الثورة، سيعود إلى قتلهم بالتقسيط كما كان يفعل قبل 18 مارس/آذار 2011، وسيفعل إذا حدث واستطاعوا دفن الثورة في "جنيف".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد