"أشتاق لقراءة رواية عربية" ..تلك العبارة التي دوّنتها "سماء" – مغرّدة سعودية على تويتر- أثارت فيّ شجوناً وحملتني إلى سنوات طفولتي في بغداد.. عندما بدأت أتلّمس طريقي في عالم القراءة الأدبية، قدحت في ذاكرتي شعور وملمس لقاء أصابعي الأول بصفحات الروايات المُصفرّة التي عثرت عليها في مكتبة دارنا وشخوصها وعوالمها الساحرة، التي أمضيت الساعات الطوال مستغرقاً في استكشافها.. أدركت مدى اشتياقي لممارسة متعة الهرب الطوعي إلى تلك الفسحات من الخيال وأنا أعيش حياتي اليوم بين مطرقة حاضر ثقيل الوطء يستهلكني، وسندان مستقبل مريب المعالم أتوجس منه.
لم أنقطع تماماً عن التواصل مع عالم الأدب العربي، رغم حقيقة أني أقيم منذ سنوات في نيوزلندا، في كل زيارة لي إلى الأردن كنت أحرص على زيارة مكتبات وسط البلد في عمّان لشراء الروايات التي قرأت عنها على الإنترنت، خصوصاً تلك التي فازت بجوائز أو تصدّرت لوائح الأكثر مبيعاً.. يجب أن أعترف هنا أن ركوني إلى ذلك المعيار في الاختيار لم يكن عادلاً وتسبّب في حرماني من الاطلاع على العديد من التجارب المميزة التي لم تنل نصيباً كافياً من الترويج، وكذلك خيبات الأمل المتكررة التي خبرتها بعد قراءة الروايات التي تصدّرت عناوين الصفحات الثقافية، لكن المسؤولية لا تقع على عاتقي وحدي، فأنا في نهاية الأمر مغترب يقيم على مبعدة آلاف الأميال، والإعلام هو أحد جسور قليلة متاحة للتواصل مع عالمي العربي.
مراقبتي للمشهد الروائي عن بعد لم تخلُ من ميزة فقد جعلتني أرى الصورة بشموليتها، وأدرك تأثير الجوائز المرموقة التي توزّع سنويًّا بتمويل سخي من مؤسسات دول الخليج العربي، ومسؤوليتها عن تغيّر ملامح وبناء وحتى لغة الرواية العربية المعاصرة..
العديد من المؤلفين بات يصيغ نتاجه وفق الاشتراطات المعلنة وغير المعلنة للهيئات المانحة للجوائز من مراعاة للأعراف السائدة في دولها وعدم التطرق للجنس والدين والسياسة، وهو أمر غير موضوعي بلا شك، فثالوث المحرّمات يشكّل دعامة مهمة في بناء أي عمل رصين، سيسفر تجاوزها عن روايات هشة، مسطّحة ومنفصلة عن واقعها الثري بشكوكه وصراعاته ورغباته وحتى هزائمه.. كان نتيجة ذلك ظهور تيارات جديدة في الكتابة الروائية ركن أحدها إلى التوافقية عن طريق تضمين النصوص قليلاً فقط من الشخصيات "المارقة" للحفاظ على هيكلية سردية مقبولة، يتكفّل المؤلف فيما بعد باستتابتها وتقويمها أو معاقبتها وتصفيتها لترضية لجان ترشيح القوائم الطويلة والقصيرة للجوائز.
تيار آخر قرّر نسف السرد بدعوى الحداثوية والتجديد واستعاض عنه بالانغماس في تصوير التفاصيل حد الفجاجة المنفرة والغثيان، فظهرت أعمال ملأى بالهلاوس والطلاسم ووصف لإفرازات الجسم البشري على اختلاف أنواعها لخلق صدمة تُشتّت المتلقي وتصرفه عن غياب التناقضات التي تصنع حبكة مقنعة.. لعل خير وصف لتلك "الروايات" ما ذكره لي الكاتب الصديق محمد عبادة:
"هي أشبه بمن يقترب من المرآة حتى لا يعود قادراً على رؤية شيء على الإطلاق".
المفارقة هنا أن فوز بعض تلك الروايات بجوائز وترجمتها إلى لغات مختلفة واحتفاء الأوساط الإعلامية المحلية والإقليمية المفرط بها، قابله فتور في استقبال النقاد والقراء الغربيين بالمقارنة مع اهتمامهم بأعمال مثل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ (العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل للأدب في عام 1988) أو حتى "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني والتي تعد أكثر الروايات العربية مبيعاً في الغرب (حسب مجلة نيويوركر)
فما هو المعيار إذا للحكم على جودة الرواية؟
لا أؤيد التنظير ولا يحق لي، فسيرتي الذاتية تضم عملاً روائيًّا واحداً فقط هو "كافيه فيروز" كنت حريصاً في خاتمته على التنويه بأن حضوري في عالم الرواية طارئ وقد لا يتكرر، غايته البوح عن تجارب حميمة عشتها أو كنت شاهداً عليها، لم تجد لها مكاناً في كتاباتي الأخرى، وإن كانت السردية سمة سائدة فيها، ربما بسبب جذوري ما بين الرافدينية، الأرض التي شهدت ولادة الحكايا قبل آلاف السنين.
كقارئ للأعمال الروائية باللغتين العربية والإنجليزية، أزعم أن إجابة السؤال عن معايير مثالية وموحّدة لتقييم الروايات تكاد تكون مستحيلة، فالأدب (والفن عموماً) يخضع لأحكام الذائقة الفردية لكل من المبدع والمُتلقّي، ما أجده رائعاً قد يراه سواي سيئاً دون أن يعني ذلك أن أحدنا مصيب والآخر مخطئ.
شخصيًّا، أنتظر من الرواية التي تقع بين يدي أن تستفز فيّ مشاعر وتثير فضولاً ودهشة، أريدها أيضاً أن تقنعني بصدقيّة حبكتها وشخوصها وتجعلني أنسى حضور الكاتب بعد أن أنتهي من قراءة المقدمة، الأمر الذي يقودني إلى تناول مكوّن آخر في الطيف الروائي العربي المعاصر تمثّله الإصدارات التي تُعرّف عن نفسها كروايات (للتأهل للمنافسة على الجوائز) لكنها في حقيقتها ليست سوى صفحات وفصول من كتابات نثرية واستعراض باذخ لبلاغة المؤلفين وتزويقاتهم اللفظية تبدو معها الشخصيات كدمى ركيكة من قش، تحركها أياد وخيوط سميكة ظاهرة للعيان.
لا جدال في أهمية اللغة السليمة وجمالية تكويناتها، لكن الاستغراق فيها مكانه كتابات الشعر والنثر، لا الرواية التي يفترض باللغة فيها أن تكون وسيلة لا غاية، وأن تتلوّن المفردات وصياغاتها باختلاف الشخوص وخلفياتهم المكانية والزمانية والعمرية والاجتماعية.. إلخ، ليس مقبولاً (على الأقل بالنسبة لي) أن تتحدث شخصية قروية أميّة مثلا ببلاغة (وأحياناً سجع) شعراء المعلقات وحكمة فلاسفة الإغريق والرومان، الزخرف المبالغ فيه يشعرني بالضيق والاختناق ما يجعل مواصلة قراءتي للنص عبئاً ثقيلاً صعب الاحتمال.
"كلما ابتعت رواية عربية ضجرت منها بعد فصول قليلة، أو أكملتها على مضض، وأنا أشعر أن كاتبها وناشرها قد استغفلاني واستحوذا على نقودي دون وجه حق".
تصريح "سماء" التالي على تويتر أثار في نفسي حسرة.. وددت الاعتراض، لكنها للأسف، كانت محقة في تذمّرها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.