بعد ما قاله وليد المعلم وزير خارجية النظام السوري يوم الجمعة الماضي بخصوص المواضيع المتاحة للتفاوض بين النظام والمعارضة في جنيف، سيكون من العبث مشاركة المعارضة إذا كانت تبحث فعلاً عن تنحية بشار الأسد كما أعلنت وتعلن طوال الوقت، ولا تعتبر أن هذا جزء من عدة شغلها السياسية فقط، فالمعلّم حدد سقف التفاوض بتغيير وزاري، وتعديل أو تبديل الدستور، وربط هذا الأخير بنتائج استفتاء شعبي عليه، واعتبر وبكلام صريح وواضح أن الرئاسة غير قابلة للتفاوض، واستند في ذلك على القرار الدولي 2254 الذي لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى تغيير رئاسي في رؤيته لسبل الحل في سوريا، وهو القرار الذي رحبت المعارضة بصدوره، واعتبرته نصراً لها بنفس الطريقة التي رحب بها النظام.
لم يكن وليد المعلّم وهو يعلن بهذا الوضوح الموضوعات المسموح لوفده التفاوض حولها، والسقف المنخفض الذي حدده لكل العملية التفاوضية، يتشدد في محاولة لكسب ما يستطيع نظامه كسبه من المفاوضات، كما قد يحاول كثيرون تفسير كلامه لإقناع أنفسهم أو جمهورهم بأن الذهاب إلى جنيف قد يفضي إلى تنحي بشار الأسد، فموقف نظام بشار الأسد بكل هيئاته ووفوده ورجاله كان واضحاً ولم يتزحزح مليميتراً واحداً في كل مرّة تم فيها البحث عن حلول في سوريا، باعتبار بشار الأسد أو "مقام الرئاسة" كما يحبون أن يطلقوا عليه خطًّا أحمر غير قابل للتفاوض، وأن أي تغيير مسموح في سوريا بالنسبة لهم لن يتعدى التغيير في الديكور أو التبديل في الإكسسوار أو المقايضة في الكومبارس، من دون المساس بثوابت النظام وبناه الأساسية: الرئيس والجيش والمخابرات..
هذه الحقائق يعرفها السوريون بأكملهم نظاماً ومعارضة، ويعرفها معهم العرب والعالم والأمم المتحدة، ولكنهم يتجاهلونها مرةً، ويلفون حولها مرةً أخرى، ويوهمون الناس بأنها ليست حقائق ثابتة إلى ما لانهاية مرة ثالثة، لأن هذا يعني -إنْ استسلموا لها- أن الحل في جبهات القتال، وأن عليهم أن ينصرفوا إلى بيوتهم باعتبار غرف المفاوضات مضيعة للوقت، وهي في الحقيقة كذلك، فيما لو استمر وفد النظام باعتبار الاقتراب من بشار الأسد أمراً غير قابل للتفاوض (وهو سيستمر)، وفيما لو استمر وفد المعارضة باشتراط تنحي بشار الأسد باعتباره هدفاً أساسيًّا ونهائيًّا للمفاوضات (وهو لن يستمر).
المتابع لمواقف وتصريحات رجال النظام خلال كل سنوات الثورة السورية، يستطيع أن يدرك اتفاقهم جميعاً على ثوابت الرئيس والجيش والأمن، باعتبارها خطوطهم الحمراء غير القابلة للمس، وهم يعرفون أن نظامهم سيتفكك في لحظة وينهار، فيما لو قبلوا بالحوار حولها أو حول أيٍّ منها، وأقصى ما قدموه من تنازلات في أشد لحظات خساراتهم العسكرية هي تنازلات هامشية، مثل قبول لجنة تحقيق عربية أو الموافقة على وساطة أممية أو إدخال شاحنة طعام لمنطقة محاصرة، أو أخيراً القبول بتغيير وزاري يدرك الجميع أنه لا يقدم ولا يؤخر في حكم سوريا
.
على عكسهم، (وبسبب عدم وجود قيادة للثورة السورية منذ خمس سنوات وحتى اليوم، وارتهان المعارضة السورية لدول عربية وإقليمية ودولية، والفساد المالي المنتشر في أوساط قادة التشكيلات المسلحة داخل الثورة، وسيطرة السفراء ومدراء المخابرات على كل الأجسام السياسية التي شُكّلت لقيادة الثورة).
لا يوجد رأي واحد أو وجهة نظر محددة لم تتغيّر منذ بداية الثورة وحتى اليوم، فانتهى هدف إسقاط النظام بكل رموزه وأدواته، إلى القبول بمن لم تتلوث أيديهم بالدم منه، ثم تالياً الحفاظ على مؤسسات الدولة بما فيها الأمن والجيش بدعوى منع الدولة من الانهيار، إلى قبول التفاوض معه على فترة انتقالية تجمع أجزاءً من النظام بأجزاء من المعارضة وبصلاحيات كاملة، إلى القبول ببقاء بشار الأسد لثمانية عشر شهراً تجري بعدها انتخابات رئاسية، وعلى أساس هذا التنازل ذهبوا وسيذهبون إلى جنيف، وأكثر ما هو مضحك في هذا..
أن تلك التنازلات كانت تجري مع تقدم الثورة عسكريًّا على الأرض، في حين أن تشبث النظام بثوابته بقي كما هو، بل ربما تصلّب أكثر خلال كل الخسارات العسكرية التي مُني بها.
هل يعني هذا أن جنيف سيفشل؟ أنا شخصيًّا لا أظن هذا، ولا أقصد جنيف الحالي، بل أعني جنيف الخامس أو السادس، وهو ما تُحضّر له الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على مراحل وبوسائل مختلفة، عبر تيئيس السوريين من جدوى الاستمرار بالثورة، وتعوديهم على القبول بأنه لا حل في سوريا إلّا عبر المفاوضات، وتغيير ماهية العدو باعتبار تنظيم الدولة وجبهة النصرة أعداء الشعب السوري مثلهم مثل بشار الأسد، وسيضاف إليهم مع الوقت جيش الإسلام وأحرار الشام، وكل التنظيمات الإسلامية الأخرى، بعد أن تتم شيطنتهم، مهما حاولت تلك التنظيمات أن تغيّر ألوانها، ثم سيتم سحب عداوة بشار الأسد من التداول؛ ليصبح الجميع صفاً واحداً في محاربة تلك التنظيمات.
بشكل مترافق مع تغيير العدو الذي يتم على مراحل وبشكل ممنهج، وحقق حتى الآن نتائج معقولة.. تم ويتم إحداث تغيير في وجوه وأجسام المعارضة السياسية، فبعد أن تم الاستغناء عن المعارضة التقليدية التي فشلت أو أُفشلت أو تم شراؤها ورميها على الرفّ مؤخراً، وتحويل من سمي بناشطي الثورة إلى موظفين لدى السفارات ومراكز التجسس، بدأت فلول النظام المطرودة منه أو المنشقة عنه تحتل الصفوف الأولى، وتُقدّم باعتبارها رجالات دولة وأصحاب خبرة وتجربة، في بلد أساساً يُدار بعقلية المافيا وليس الدولة، وسلّم الصعود فيه إلى المناصب يتم عبر الخدمات التي تقدّم لأجهزة المخابرات وليس الخبرة، وبشكل مترافق مع كل ذلك يجري تشكيل أجسام معارضة كرتونية كل منها يتبع لجهة أو دولة، وهيئات مجتمع مدني بأسماء براقة وأهداف سامية ومُثل عليا، وعند إنجاز كل تلك الأهداف في جنيف الرابع أو الخامس أو السادس، سيجتمع كل هؤلاء معاً ليتفقوا ويتحاصصوا ويحاربوا كجبهة واحدة كتفاً إلى كتف مع بشار الأسد، من كانوا حلفاءهم ومن يعتبرونهم ثواراً ويدّعون تمثيلهم بالأمس، وعندها سينجح جنيف.
ناقص أو زائد عشرين بالمائة.. هذا هو ما يُخطط له لمستقبل سوريا، فالجميع (وأقصد هنا كل هذه الأطراف المتضررة من النظام) اكتشفوا أن العدو الذي تعرفه أفضل من العدو الذي لا تعرفه، وأن النظام الذي تحملوه وسايروه واشتغلوا عنده ومعه خمسين سنة في السابق، يستطيعون أن يتعايشوا ويتعاملوا معه لسنوات قادمة، ويفضلونه على نظام غامض قد يحاكمهم أو ينبش ماضيهم أو يقطع أرزاقهم، أو ينحيهم جانباً في أحسن الأحوال.. لكن هل هذا سينهي الثورة؟ أشك! وإن كان سيؤجلها إلى سنين قادمة، ليدفع السوريون من جديد ثمناً باهظاً من الضحايا أكثر بكثير مما دُفِع في هذه الثورة، بنفس الطريقة التي أجل فيها السوريون ثورتهم بعد مجزرة حماة عام 1982 إلى سنة 2011 ودفعوا أضعافاً مضاعفة من الثمن الذي كانوا سيدفعونه آنذاك فيما فعلوها حينها.
في مؤتمره الصحفي الجمعة الماضي، قال وليد المعلم بأنهم لن يعطوا في المفاوضات ما لم يعطوه في المعارك، فيما تقوم المعارضة بإعطاء النظام في جنيف ما فشل أن يحصل عليه في المعارك، تنفيذاً لأمر أو طمعاً في منصب، أو هرباً من محاكمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.