ولكن كلماتي ما خابت!

إن الله قد خلق آدم ووهبه الكلمات خاصة دون خلقه أجمعين، ويبدو أن هناك من بني آدم من اصطفاهم الله للكلمات، لتكون دورهم ومسؤوليتهم، لتكون دليل سعي مستمر في طريق الأفضل، لتكون شاهداً ومؤرخاً، قد لا يرون تغييراً بأعينهم، إلا أنهم يكتبون على أمل أن تسقي كلماتهم نبتة في قلب طفل صغير، أو فتاة في مقتبل العمر، فتنمو وتزدهر، ثم تُسطر إرادة وحبًّا ونقاء، وتغييرا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/11 الساعة 21:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/11 الساعة 21:55 بتوقيت غرينتش

مر قرابة الشهرين أو أكثر لم يُنشر لي مقال، أو حتى أخط كلمة واحدة على ورق، بالرغم من كل ما أجد في الكتابة من شغف، وبالرغم من كل ما تحققه لي من راحة!
بالصدفة، كان يناير الماضي هو ذكرى أول مقالة نشرت لي، وأعترف أني لم أحتفِ بهذه المناسبة بالشكل اللائق، فقد عاهدت نفسي منذ ذلك اليوم ألا أكتب شيئاً إلا بعد أن يتملكني شعور ما حيال قضية أو فكرة أو حدث، فأفرغ ذلك الشعور في بوتقة الكلمات، ومن ثم أرى إن كان مادة جيدة للنشر أو أنه على الأقل يستحق قراءة شخص آخر غيري..

أما في الأشهر الماضية، لم تعد تملأني أفكاري وتساؤلاتي المعتادة حول الدين، المرأة كما كنت دوماً، باتت تشغلني أفكار أخرى، يتبعها تساؤل كبير، لماذا أكتب؟ بل.. لماذا نكتب؟
يقفز لذاكرتي مشهد القسم، قسم المهنية الذي رددناه في حفلة تخرجنا من كلية الإعلام "أقسم بالله العظيم أن أحترم عملي الإعلامي، وأن أزاوله بشرف وأمانة وأن ألتزم بالحقيقة ما حييت"..
نلتزم بالحقيقة، نكتب ما يرضي ضمائرنا، لا نخشى قول الحق، ثم ماذا؟! نستيقظ يومياً على الأوضاع ذاتها، إن لم تكن أكثر سوءاً!

العديد من المقالات نكتبها عن أفكار ومعانٍ نتمنى أن تُحدث تغييراً في ثقافة الناس، أو حتى حراكاً فكرياً طفيفاً، حالات إنسانية تُرصد، مقالات عدة يكتبها صحفيون كبار في أكثر من جريدة أو موقع إلكتروني، آراء على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل، يكتبون عن المعتقلين، الثورة، يرسلون خطابات لرؤسائهم في كل عصر، ينقدون الحكومة، ثم ماذا؟ نخرج للدنيا فإذا بها كما هي لم تتغير، وإذا بالناس كما هم، لم تشرق الشمس من مكان آخر، ولم تتغير حركة الكواكب بتأثير كلماتنا تلك، لم تُغلق السجون، لم يتحقق العدل، لم يحدث أي مما تغنى به هؤلاء.

ذلك الطفل الذي التقطنا له صورة وهو يشرب الشاي بجانب ورشة لتصليح السيارات ويداه ملوثتان بالشحم.. ثم أخذنا نتناقلها ونعلق بأنها أسمى أشكال السعادة، لم يتغير حاله أيضاً، ما زال يخرج من منزله في البرد القارص لتتلوث يداه مرة أخرى بشحم سياراتنا الفارهة، نعطيه من رفات أموالنا ثم نحسده على ابتسامته الرثة بالكلمات!

نكتب عن الحب، ونتغنى بمعانيه، وننسى أنه يختنق كل يوم بدخان المادة تارة، ودخان الجهل تارة، وبالأنانية، وفساد التربية والموروثات المجتمعية والفهم المعوج للدين تارة أخرى.
والأدهى، أنه حتى نحن نظل كما نحن، كل ما فعلناه أن أفرغنا تلك الأفكار التي تعاركت بداخل أدمغتنا على ورق، وبضغطة زر واحدة تحولت تلك القصاصات الفكرية الناقصة لمادة تُقرأ بل ويعلق عليها الناس، ويتبادلون مناقشتها! تماماً كما قال توفيق الحكيم حينما أتاه شاب يسأله عن رواية أهل الكهف فما كان منه إلا أن قال " ……………………"
لم تعد لكلماتنا قيمة، بل لم تكن كذلك يوماً، فالدنيا كلها ستنتهي وكلنا سيموت ولن تجدي تلك الكلمات نفعاً ولن تغير من الأمر شيئاً، ويبدو أن حالة اليأس هذه تتملك كل من يمسك بقلمه ويكتب، صغيراً كان أم كبيراً، هاوياً أو محترفاً، مشهوراً كان أو مغموراً.

من وقت لآخر، يداهمني هذا الشعور بقوة، إلا أن هذه المرة وبالصدفة البحتة، كان قد أهداني أحد الزملاء مسرحية شعرية لصلاح عبد الصبور اسمها "مأساة الحلاج"، مسرحية قديمة وشهيرة، ولكني لم أكن قد استمعت لها من قبل، تحكي عن رجل صوفي زاهد كان خطيباً بمسجد الرصافة، أهمه حال الجوعى والمرضى والمعتقلين ظلماً، فخرج للناس ساعياً لتنويرهم بحقوقهم كما ينورهم بدينهم، نصحه شيخه الصوفي بالصمت، وشككه فيمن يعظهم من الصالحين الذين يريدون دخول عالم الحكم، فرد عليه بكلمات لا أعرف حتى اللحظة كيف خطها المؤلف بهذه الروعة والدقة، وكأنه يحيك ثوباً ملكياً، تداعب أصابعه المعاني برفق كما يتناول الخياط قطعته الحريرية، وحاكها بخيوط راقية مثل أفكاره، ثم طرزها بأثمن التعبيرات اللغوية، ليجيب تماماً عن كل ما كان يدور في خلدي من أسئلة:
" = قل لي يا حلاج أَوَثِقت بأن وجوه الأُمة ممن تعرف إن وُلُّوا، ظلوا أهل مودة؟
– لا يعنيني أن يرعوا وُدي أو ينسوه، يعنيني أن يرعوا كلماتي.
= بل ما يدريك بأنهم إن وُلُّوا لم تسكرهم خمر السلطة، وبأنهم ما التفّوا حولك إلا لكراهتهم من دَبَّر لك؟
قد خبت إذاً، لكن كلماتي ما خابت، فستأتي آذان تتأمل إذ تسمع، تتحضر منها كلماتي في القلب، وقلوب تصنع من ألفاظي قدرة يُشَد بها عصب الأذرع، ومواكب تمشي نحو النور ولا ترجع إلا أن تسقي بلعاب الشمس روح الإنسان المقهور الموجع. "

قفز إلى رأسي بعدها ما سمعته من أحد أساتذتي حين أخبرنا أن الكلمات هي أول ما تعلمه آدم، فقد علمه الله أسماء ومعاني كل شيء، علماً لم يكن للملائكة أن يحيطوا به، ولكن الله خص به آدم، لأن عالم آدم هو عالم الكلمة، حتى حينما أراد من انتكست فطرتهم من البشر أن يحيدوا عن هذا الطريق، أخبرنا الله أن أول ما فعلوه هو "تبديل كلمات الله" فأطلقوا الأسماء ذاتها على معانٍ أخرى على غير ما خلق الله عليه الكون، سموا العري موضة، ثم أقاموا له المحافل وحشدوا لها العارضين وصرفوا عليه الأموال، وهم في حقيقة الأمر لم يستخدموا أكثر من "الكلمات"..

وبالكلمات أيضاً تحولت الترهات إلى نظريات، وتحول الظلم إلى دهاء سياسي، والمعارضة أصبحت إرهاباً، وسرقة العاطفة بعيداً عن أعين الناس عرفوه بـ"جنون الحب"، وسلب شخصية المرأة وكيانها سُمي حفاظاً عليها وتكريماً..

وبالكلمات أيضاً، يُرفع لواء الحق، ويصير المعارضون أبطالاً يغيرون مجرى التاريخ، بالكلمات أسقطت نظم جائرة، وتسلل السلام في النفوس، وذاقت القلوب طعوماً من الجنة عن الحب، السعادة، والأمان..
إن الكلمة لن تغير العالم بين يوم وليلة، ولن تغير الناس في يوم وليلة، ولكنها كاللبنة في البناء، الذي لن يقوم إلا بها..

إن الله قد خلق آدم ووهبه الكلمات خاصة دون خلقه أجمعين، ويبدو أن هناك من بني آدم من اصطفاهم الله للكلمات، لتكون دورهم ومسؤوليتهم، لتكون دليل سعي مستمر في طريق الأفضل، لتكون شاهداً ومؤرخاً، قد لا يرون تغييراً بأعينهم، إلا أنهم يكتبون على أمل أن تسقي كلماتهم نبتة في قلب طفل صغير، أو فتاة في مقتبل العمر، فتنمو وتزدهر، ثم تُسطر إرادة وحبًّا ونقاء، وتغييرا.


"أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
ودخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة نور وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة
يعتصم بها النبل البشري
الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة
الكلمة حصن الحرية
نور الله هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية"..

عبد الرحمن الشرقاوي

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد