ما زال الناس يخرجون في ثوراتهم وينتظمون في أحزابهم منادين بالديمقراطية، ذلك النظام الذي تغالب الناس عليها طريقة للحكم. ورغم قدم النظام الديمقراطي، حيث تعود جذوره لدولة اليونان القديمة (The Republic) التي توصلت لتلك الصيغة بعد تجارب عدة ونقاشات فلسفية خاض فيها أرسطو وغيره، مميزين لأول مرة بين نظم الحكم المختلفة، إلا أنها ما زالت حتى الآن تخضع للتطوير والتحوير وما زال الناس ينادون بها.
أرسطو مثلاً قسم نظم الحكم إلى ثلاثة أقسام رئيسية من حيث نوعية الحاكم: نظم الحكم الواحد، راشدة كالملكية (Monarchy) أو فاسدة كالحاكم الاستبدادي (Tyranny)؛ نظام الفئة الحاكمة: راشد كالأرستقراطية (Aristocracy) فاسدة كالأوليجاركية (Oligarchy)؛ حكم الجماهير: كالديمقراطية أو الدولة الجمهورية (Democracy or Polity). كان ذلك في أيام اليونان القديمة، لم تشهد الإنسانية بعدها مشاركة جماهيرية فعلية إلا عقب الثورة الفرنسية في 1789، إذ اشترك فيها كل مكونات المجتمع الفرنسي وخصوصاً الطبقة الكادحة، كما شهدت دخول المرأة كفصيل سياسي قوي. إذن تجددت الديمقراطية كنظام عبر التاريخ بل صارت تاريخاً في حقب معينة من الزمان؛ لذا نتساءل هنا: هل ستستمر الديمقراطية كنظام مرغوب فيه أم أنها قد تصبح شيئاً من الماضي؟
أيان موريس، أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد، يناقش هذا السؤال في مقال له، حيث يستشهد بتشرشل، السياسي البريطاني الشهير، الذي يحدثنا عن أن الديمقراطية لا يمكن أن يدعي أحد أنها مثالية أو وصلت حد الكمال (No one pretends that democracy is perfect or all-wise) مما يشير الى إمكانية نبذها أو ربما تقهقرها مستقبلاً، خصوصاً وإن عالم السياسة بدأ شيئاً فشيئاً يستقبل تطوراً تقنيًّا هائلاً، كآليات التصويت الإلكتروني واستطلاعات الرأي، التي أصبحت تعتمد على أعلى درجات التعقيد التقنية. ليس هذا فحسب، بل توصلت بعض الخوارزميات إلى توقع نتائج الانتخابات بنسبة تصل إلى 80% مما ينذر بثورة تقنية رهيبة في عالم السياسة.
حدثني صديق لي يدرِّس في مجال تقنية المعلومات، أن علماء التقنية والحاسوب باتوا أكثر ثقة في أن الحاسوب سيشارك في اتخاذ القرار السياسي قريباً. وفق خوارزمية معينة ومدخلات معينة، يمكن للحاسوب الذكي أن يختار بين السياسات المختلفة، ويقرر أيها أفضل للمجتمع والدولة.
وهذا يعني تقليل دور السياسي تدريجيًّا، بل والاستغناء عنه، تماماً كرجل المرور الذي تم الاستغناء عنه في تقاطعات الطرق. وسيأتي هذا التحول متزامناً مع ظاهرة نفور الجماهير عن التفاعل السياسي (تناقص المشاركة في الانتخابات عاماً بعد عام في الولايات المتحدة وبريطانيا) وتزايد ثقة الجماهير في التكنولوجيا ومنتجاتها. يذكرني ذلك بفيلم للممثل ويل سميث ( I, Robot) حيث يقاوم البطل سيطرة الإنسان الآلي على الإنسان وثورة الإنسان الآلي على من قام بتصنيعه. قد يبدو الأمر مخيفاً لوهلة لكن التطور التكنولوجي ليس بعيداً جدًّا عن تلك الصورة.
في الوقت ذاته، لا يمكننا التسليم للتاريخ وإحتمالية تكراره حين نحاول استشراف مستقبل الديمقراطية. من أكثر الأخطاء شيوعاً، هو افتراض أن التاريخ سيعيد نفسه.
يمكننا التعلم من التاريخ، لكن لا يعني هذا حتمية المصير في قضية معينة. يمكن أن تموت الديمقراطية ونرجع لحقبة الملوك والإمبراطوريات كما حصل سابقاً، ويمكن أيضاً أن تستمر الديمقراطية كما هي. ولعل على المرء أن يسأل نفسه: هل يا ترى يمكن أن ترجع البشرية لأيام الإسكندر الأكبر، حيث برزت إشكالية الرجل الإله وأحقيته بالحكم. لا يقف المرء هنا، بل يتساءل أيضاً عن مستقبل الدول التي لمَّا تعش ديمقراطية حقيقية، أليس من الأجدى أن نبدأ من حيث انتهت الديمقراطية؟ أم أن الطريق لا بد أن يُسلك من البداية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.