القراءة ضارة بالعقل و تسبب الوفاة

المُشكلة بدأت حين أصبحنا لا نعرف الفرق بين نوعية الكتابة التي تصلح لتكوين كتاباً قيَّماً يستحق أن تُخرج من محفظتك بعضاً من نقودك في سبيل اقتنائه، ونوعية الكتابة التي لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن تتعدى مواقع التواصل الاجتماعي التي تستوعب كل من "هب ودب" ليكتب فيها ما يدور بباله، والذي ربما يدور ببال معظمنا، فقط لأننا بشر ونمرّ بظروف متاشبهة في الكثير من الأحيان، لا أكثر ولا أقل!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/07 الساعة 07:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/07 الساعة 07:55 بتوقيت غرينتش

انتهى موسم معرض الكتاب المجيد.. وسكن الناس في بيوتهم يملأون مكتباتهم بحصيلة المعرض من الكتب والروايات والدواوين، فخورين بأنفسهم أنهم من هؤلاء المثقفين الذين يغذون عقلهم بالقراءة، لكن معرض الكتاب كان مختلفاً هذا العام، ولعل ذلك الاختلاف ليس بشيء فُجائي حدث بين ليلة وضحاها بل هو طفل صغير يكتمل نموه عاماً بعد عام.. حتى إذا اكتمل تماماً طالب بالخروج إلى الحياة والظهور بوضوح.

للأسف الشديد أن الاختلاف الظاهر سواء في معرض الكتاب أو في دور النشر وبيع الكتب بشكل عام، هو اختلاف سيئ الجوانب، يعكس عدداً من السلبيات التي لا يُستهان بها، يكشف لكل من له عينان وقلب بصير ما سيصبح عليه حال بلادنا في غضون سنوات قليلة إذا استمر الحال كما هو عليه.

لفت أنظار الكثيرين أن مستوى ما يتم نشره من الكُتب أصبح غريباً جدًّا، أصبح كل من له عدد متابعين يتعدى بضعة آلاف على مواقع التواصل الاجتماعي يطلق على نفسه لقب "شاعر/كاتب" وما إلى ذلك من ألقاب تطلق على الأدباء ثم نفاجأ به ينشر كتاباً واثنين وعشرة! غير مُدرك أن كلمة الشاعر والكاتب هي كلمات ليست بهيِّنة، كما أن الأدباء أكثر ما يميزهم هو ليس قدرتهم على ترتيب الكلمات وملء السطور، بل قدرتهم على التفكير والتحليل و.. فالأديب لا بد أن يكون "مفكراً" وأمر الكتابة بعد ذلك ليس بالشيء المستحيل. والمهزلة التي صرنا فيها أننا أصبحنا نجمع بين أيدينا كُتباً تنفق عليها دور النشر الكثير من الميزانية، وهي لا تسقي عقولنا بأية قيمة ولا حتى مجرد "أدب" وكلمات يصفو لها الذهن.

المُشكلة بدأت حين أصبحنا لا نعرف الفرق بين نوعية الكتابة التي تصلح لتكوين كتاباً قيَّماً يستحق أن تُخرج من محفظتك بعضاً من نقودك في سبيل اقتنائه، ونوعية الكتابة التي لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن تتعدى مواقع التواصل الاجتماعي التي تستوعب كل من "هب ودب" ليكتب فيها ما يدور بباله، والذي ربما يدور ببال معظمنا، فقط لأننا بشر ونمرّ بظروف متاشبهة في الكثير من الأحيان، لا أكثر ولا أقل!

فالنوعان مختلفان تماماً شكلاً وموضوعاً، والخلط بينهما هو الذي أدى إلى ما نحن فيه! فكون البعض يجيدون كتابة الـ"statuses" التي تحصد الكثير من الإعجاب والنشر لا يعني إطلاقاً أن كل حرف تكتبه يصلح ليكون في كتاب يُشترى؛ لأنه في الأول والآخر لا يضيف قيمة ولا يضيف أدباً.

كما أن الموضوع أصبح مكرراً وسخيفاً بشكل كبير، فالأغلبية لا يكتبون إلا عن العلاقات العاطفية، ومن منظور ضيق جدًّا الذي هو من النوع "البنت محتاجة اللي يسمعها" و"الراجل محتاج اللي تفهم ضعفه" و"الشتاء محتاج سحلب.. والصيف بيحب البطيخ"! فأغلبنا أصبح يحفظ تلك العبارات و"النكات" لكونها كثيرة التداول جدًّا على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يثير الاستفزاز أكثر وأكثر أن يدّعي أحدهم أنه شاعر ونجده يكتب ما أطلق عليه شعرًا عن "الشات" الذي دار بينه وبين حبيبته وكيف أنه انتهى بـ"Block"!

كل ذلك وارد جدًّا، فالحرية مُطلقة للجميع أن يكتب وأن يملأ الصفحات بكلمات ربما يراها هو ذات جدوى ومهمة لمن يقرأها، لكن الأزمة من وجهة نظري هي أن دور النشر التي وافقت على نشر مثل تلك الكُتب لم تخرج من المعركة خاسرة، بل على العكس فقد استطاعت أن تكسب وبشدة! وأن تطبع أكثر من طبعتين وثلاثة وعشرة مما يعني أن الناس أصبحت تنفق أموالها وتذهب إلى معارض الكتاب لشراء هذا النوع من الكتب، والذي أصبح منتشراً جدًّا ويعتبرون أنفسهم في النهاية قُرّاءً مثقفين! إنها مهزلة بكل الأشكال، ومهزلة صعبة الإيقاف؛ كون الناس يرغبون في قراءة هذا الكلام ويشجعونه أكثر وأكثر!

إن مشكلة كهذه تعكس ما أصبحت عليه عقول الشباب التي من المفترض أنها أمل تلك البلاد، فإذا كانت عقولنا لا تستوعب ما يغذيها حقًّا وما يضيع وقتها ولا ينفعها، فأين نحن؟! هل نحن واقفون في لحظة ثابتة أم أننا نتراجع على مدار الزمن، ولا أحد يدري ما يمكن أن نتفاجأ به من أنواع الكتب والقراءة فيما بعد!

لست ضد العامية، ولا ضد الكتابة عن العلاقات العاطفية، ولا ضد الشعر والأدب المُبسط فالأبنودي عليه رحمة الله كان يكتب شعراً عاميًّا بسيطاً، ولكنه كان يضيف لكل من يقرأونه سواء كان يحب الشعر أصلاً أو لا يطيقه، كان شعراً يطرب الآذان على أقل تقدير! فلنعلم أولاً الفرق بين البساطة وبين الركاكة، لنعلم ما سيُغذي عقولنا قيمةً أو أدباً، ثم نقرر شراء الكتب ودفع المال، والأهم هو ألا نسمح لمواقع التواصل الاجتماعي وما يُنشر على صفحاتها من دخول مكتباتنا كنوع من الفكر والثقافة، إن لم يكن كذلك حقًّا، فإن لم تكن مُفكراً، اسمح لي أن أقولَ لك إنك لست أديباً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد