الرقص بين التاريخ والجغرافيا!

من المهم أيضاً أن نُربي جيلاً جديداً واعياً منفتحاً ونرحمه من أن يعيش في دوامات الصراع التي صنعناها بأيدينا. ونجعله يعيش حياة سلمية عله يلحق بركب الحضارة التي نسيناها. وإذا ما فُرض على الأجيال القادمة أن ترى النور في ظل تقسيمات جغرافية ومناطقية جديدة، فلنحاول حمايتهم من تقسيمات فكرية وطائفية، تجعل أيامهم أشد سواداً من أيامنا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/29 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/29 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش

وتبقى الأحلام رغم جمالها أحلاماً.. مائة عام مرت على اتفاقية "سايكس بيكو" التي لم تكن مجرد حدود وتقسيمات بل كانت أعمق من هذا بكثير. كانت جواز سفر وهوية،عَلَمٌ وخارطة، نشيداً وطنياً نردده كل صباح.

مئة عام مرت، نقلت عالمنا العربي من مفهوم الأمة الواحدة والوجع الواحد إلى مفهوم الوطنيات المتعددة والأوجاع المتناوبة.
"سايكس بيكو" ذلك الخبر الذي كان صدمة للعرب وللشريف حُسين، اليوم أصبحت واقعاً ملموساً نتفاخر به ولا نخجل منه. بل ونسعى دائماً إلى ترسيخها بالأفعال والأفكار.

جميعنا نتغنى ليل نهار بأمجاد العروبة والحضارة الإسلامية وأيام خلت. وكل واحد منا يبدأ حديثه قائلاً:
بـ (نحن العرب كنّا) أو (نحن المسلمين كنّا) ويسرد أمجاداً وبطولات ويذكر أبطالاً ورموزاً قادت الأمة ورسمت تاريخنا بتفاصيله.

كل هذا يتلاشى سريعاً بمجرد العودة إلى الواقع لنعود (نحن) و(أنتم) فنحن من هذا البلد وأنتم من ذاك القُطر. وصرنا نتكبرعلى بَعضنَا بحدود من الوهم، وضعتها أيادي ظالمة خبيثة، تلك الحدود لم تغير جغرافية المنطقة ومستقبلها فقط. بل رسمت حدودها حتى في أفكار والتصرفات..

مائة عام مضت عندما اجتمع "مارك سايكس" و"جورج بيكو" على طاولة واحدة وقررا مصيرنا وقررا وطنياتنا المزعومة ليخرج بعدها أجيال تفتخر وتتغنى بوطنيتها على حساب أمتها.

فهذا قَطري وذاك سُعودي وهذا فلسطيني وذاك سوري وهذا عراقي. مائة عام كانت كافية لنُسمى أجانب في بلاد إخوتنا العرب.

لماذا؟ لأننا من أقطار أخرى! وفي الحقيقة لو أن "سايكس" أو "بيكو" عطس وهو ممسك بالمسطرة أثناء ترسيم الحدود بين البلاد العربية لرأينا ربما مُدناً كاملة انتقلت إلى دولة أخرى، ولرأينا اليوم كثيراً ممن يدّعون الوطنية يتغنون ببلد آخر!

فربما كانت دير الزور مدينة عراقية أخذت نصيبها من الطائرات الأميركية، بدلاً من الأسدية، وربما كان سكان درعا مثلاً أردنيين وليسوا لاجئين الآن، أو ربما هم ومَن يستضيفهم اليوم لاجئون! إلخ.

إذاً الذي يحددك اليوم إن كنت لاجئاً أم لا هو "سايكس وبيكو" أو بالأصح أن (سايكس لم يعطس) هكذا هي الحكاية بكل بساطة.


حُلم يتحقق أم تقسيم جديد

يرى الكثير اليوم أن ما فعلته داعش يُعتبر أول كسر حقيقي لحدود سايكس بيكو،هذا التنظيم الإرهابي الذي يسعى إلى تكوين جغرافية خاصة به وضمن حدود أفكاره. أزال الحدود بشكل فعلي وتطبيقي بين العراق وسوريا في المناطق الخاضعة لسيطرته، وأستطيع أن أجزم بأنه لولا أفكار هذا التنظيم الشاذة وطرقه الملوثة بالدماء في التعامل. لوجدنا الكثير من العرب وخصوصاً القوميين منهم يتغنون بهذا العمل ويقولون عنه الكثير.

في الطرف الآخر وبعد أن شكلت المرحلة الراهنة عاملاً محفزاً للسياسة العالمية تجاه المنطقة، وباتجاه طرح ملفات كثيرة وواضحة لتقسيم المنطقة، وخصوصاً في ظل غياب شبه كامل لأي أيديولوجيا جديدة، وعجز المجتمع العربي عن إنتاج نخب سياسية قيادية تقود الشارع وتواجه خطط التقسيم. وما تناقلته الصحف ووسائل الإعلام عن الشرق الأوسط الجديد، وتسريب الكثير من الوثائق التي ترسم حدوداً وجغرافيات جديدة في المنطقة. ومن شدة الخوف من هذه التقسيمات ومن صعوبة تخيل الموقف جعل الكثير يتمسك بحدود اليوم وربما تَرحَّم على سايكس وبيكو.

وكيف لا تُقسم الأمة من جديد وقد أصبح عالمنا العربي ساحة مفتوحة للحروب الطائفية والفكرية. ومساحة ضخمة يحكمها الكره والحقد. وأكبر مستودعات العالم للأسلحة. وتجارة الأكفان والقبور هي الأكثر رواجاً.

وكما أن هناك "سايكس بيكو" مناطقية رَسخت مفهوم الوطنية. هناك أيضاً "سايكس بيكو" طائفية بدأت تترسخ في عقول المفكرين قبل العامة، وتمت تغذيتها بأشكال كثيرة في المناهج. حتى أصيب الجميع بحالة اللاإدراك التامة ولم نعد نتكلم بعنصرية وطنية فقط بل انتقلنا إلى دهاليز أضيق طائفية ومناطقية وحزبية.

متحدين نقف متفرقين نسقط

دائماً عندما يُطرح النقاش في هذا المجال تتوجه أصابع الاتهام نحو حكام وحكومات وخخط ومؤامرات وُضعت لترسيخ هكذا مفاهيم، لكن قبل أن نوجه اتهامنا لأي جهة، ماذا فعلنا نحن كي نحمي أنفسنا وأفكارنا من الانجراف وراء التقسيمات الجغرافية والطائفية المطروحة في الأسواق السياسية اليوم؟ سوى أننا نتباكى ونعيش دور الضحية.

يجب علينا أن نتحرك بخطوات فاعلة أكثر جدية. من خلال إيجاد روح جديدة وفكر سليم يناسب الواقع ويهتم بالمستقبل وبعيد كل البعد عن تشوهات الماضي.

ولن يتحقيق هذا كله إلا باتحاد الهدف وتلاقي المشاريع وتوحيدها والتجرد من الأسماء والجماعات والأمجاد الشخصية.فثمة مؤشر يؤكد على أن اجتماع الأفراد على فكرة عمومية شاملة كالفكرة الأممية يقلل من قابليتها للتداعي، والانقسام ويقوي مرونتها أمام مقصات التقسيم على أساس قومي أو مذهبي. وهذا ما سعت إليه أوروبا بأكملها بعد الحرب العالمية الثانية حتى وصلوا إلى نتائج كبيرة في يومنا هذا، وذات المفهوم هو الذي حافظ على شمل الأمة الإسلامية عبر عصورها السابقة.

ومن المهم أيضاً أن نُربي جيلاً جديداً واعياً منفتحاً ونرحمه من أن يعيش في دوامات الصراع التي صنعناها بأيدينا. ونجعله يعيش حياة سلمية عله يلحق بركب الحضارة التي نسيناها. وإذا ما فُرض على الأجيال القادمة أن ترى النور في ظل تقسيمات جغرافية ومناطقية جديدة، فلنحاول حمايتهم من تقسيمات فكرية وطائفية، تجعل أيامهم أشد سواداً من أيامنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد