ضاقت عليهم الأرض بما رحبت بعدما فروا من أتون الحرب التي قضت على الأخضر واليابس في سوريا، تاركين وراءهم كل شيء، حاملين ذكريات الماضي القريب متجهين صوب أوروبا، حيث الحلم بمستقبل أكثر أمناً وسلاماً. رحلة شقاء قُدِّر للإنسان السوري أن يعبرها مضطراً مخاطراً بحياته وحيداً على أمل لمِّ الشمل مع أسرته في القريب العاجل، أو مغامراً مع عائلته وسط أمواج البحر وصولاً إلى شواطئ أوروبا..
معاناة لا تنتهي بمجرد الوصول، بل تبدأ بعدها رحلة غربة من نوع آخر إذ يصبح هؤلاء رهينة لتعامل حكومات أوروبا معهم. بعضهم يظل عالقاً على الحدود لأيام محاصرين بأسلاك شائكة حتي تنتهي السلطات من تفحص أوراق هويتهم. آلاف الأميال يقطعها اللاجئون من الشواطئ اليونانية أو الإيطالية عبر مقدونيا والمجر والنمسا وصولاً إلى ألمانيا والسويد. فبالورود ولعب الأطفال استقبلت ألمانيا منذ سنة 2015 حوالي مليون لاجئ شكَّل السوريون نسبة كبيرة منهم. إلا أن هذا الترحاب سرعان ما تبدد وسط شكوك لقدرة ألمانيا على استيعاب هذا العدد.
ففي الأسبوع الماضي أثار فيديو حصار اليمين المتطرف لحافلة تقلُّ لاجئين في إحدى الولايات الألمانية أثار جدلاً واسعاً وسط السياسين حول تنامي الكراهية للأجانب في ألمانيا وشكوك حول تعامل الشرطة بغلظة مع اللاجئين. وقد ظهر في الفيديو الذي انتشر بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي عناصر من الشرطة الألمانية في بلدة "كلاوسنيتز" القريبة من دريسدن وهي تحاول بسرعة إخلاء الحافلة التي تقلُّ عدداً من العوائل والأطفال في حالة رعب بعدما حاصرها نحو مائة شخص من اليمين المتطرف مرددين هتافات معادية للأجانب مثل "عودوا إلى بلادكم" و"نحن الشعب" وهو شعار كان يستخدمه الألمان في السابق لمناهضة الشيوعية. ويظهر في الفيديو طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره وهو يبكي خائفاً من الحشد في الخارج رافضاً النزول من الحافلة، إلا أن فرداً من الشرطة دفعه بقوة ممسكاً بذراعه وكتفه واقتاده إلى داخل مركز الإيواء بعنف.
وقد أثار هذا الشريط استياءً كبيراً في ألمانيا إذ وصف وزير داخلية مقاطعة ساكسونيا "ماركوس أولبيج" تصرف عناصر الشرطة بأنه "معيب للغاية". قد كان زعيم حزب الخضر جيم أوزدمير -وهو من أصول تركية- قد انتقد تعامل الشرطة حيث قال "من يرتدي زي شرطة بلادنا عليه حماية دستورنا" مطالباً بإقالة الشرطي المسؤول عن هذا التصرف. ولم تمضِ أيام قليلة حتى قام بعض الأفراد من اليمين المتطرف بإشعال النار بمنزل كان مقرراً لإيواء اللاجئين في بلدة "باوتسين" في ولاية ساكسونيا إذ تجمع عدد من الأشخاص في حالة سكر والفرح يعلو وجوههم وهم يشاهدون ألسنة اللهب تلتهم المبنى.
وفي نفس الأسبوع أثار غلاف مجلة بولندية يمينية جدلاً واسعاً حيث احتوى الغلاف على صورة امرأة بيضاء البشرة ملتفه بعلم الاتحاد الأوروبي تصرخ بسبب لمسها والاعتداء عليها من قبل أيدي رجال ذوي بشرة سمراء تشبه بشرة سكان الشرق الأوسط كناية عن اغتصاب أوروبا من قبل المهاجرين في إشارة واضحة إلى الهجمات والتحرش الجنسي الذي حدث في كولونيا وبعض الولايات الألمانية في ليلة رأس السنة على يد بعض المهاجرين العرب والأفغان حسب تقرير الشرطة الألمانية..
ففي المقال الرئيسي للمجلة، أشارت الكاتبة البولندية "ألكسندرا رايبنسك" إلي أن أزمة المهاجرين ما هي إلا نتاج لصراع الحضارات بين الإسلام والمسيحية. وكان المراقبون قد قارنوا بين غلاف المجلة البولندية وبين الدعاية النازية والفاشية وقت هتلر وموسولوني، حيث استُخدمت صور النساء في التعبير عن اعتداء اليهود والأفارقة على أوروبا.
اليمين المتطرف في ألمانيا
وكان اليمين المتطرف قد استغل أزمة اللاجئين التي تجتاح أوروبا في كسب أرضية سياسية وشعبية لخطابة المعادي للأجانب. وقد كان عام 2015 هو الأسوأ بالنسبة لتنامي ظاهرة اليمين المتطرف في ألمانيا، حيث أفادت تقارير الشرطة إلى ارتفاع معدلات جرائم اليمين المتطرف بزيادة 30% بالمقارنة بسنة 2014 إذ بلغت الجرائم وفق ما نشرتة وكالة الأنباء الألمانية 13 ألفا و864 عام 2015 مقارنة بحوالي 10 آلاف و541 جريمة في عام 2014. وتفيد تقارير الشرطة أن عدد الهجمات على مراكز إيواء اللاجئين زادت خمسة أضعاف عن سنة 2014.
يذكر أن اليمين المتطرف في ألمانيا ظهر بشكل مبطن بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ولكن نشاطه ظل محدوداً، إلا أنه تنامى مرة أخرى في التسعينيات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وظهرت مجموعات مختلفة من اليمين المتطرف كان أشهرها "سكينهدز" أو "حليقي الرؤوس" وهو الشكل الذي ميز أعضاءها عن الباقي بزيهم الأسود وشعر رأسهم الحليق. هذا إلى جانب مجموعات أخرى من النازيين الجدد أو ما يعرف بظاهرة "النيونازي". واعتمدت تلك المجموعات على الخطاب الشعبوي الاستقطابي ضد الأجانب والمسلمين. وظلت هذ الحركات ملجأً لفئة معينة من الشباب الألماني الباحث عن الهوية في مناطق ألمانيا الشرقية. واتسم نشاط تلك الحركات بالعنف، الأمر الذي لاقى استهجاناً لدى غالبية الشعب الألماني. وفي أوائل الألفينات حدث تطور نوعي وشكلي لدى اليمين المتطرف. فمن حيث الشكل لم يعد أعضاؤه يميزون أنفسهم باللبس أو الرأس الحليق، كما انضم لمعسكر اليمين فئات أخرى من المجتمع سواء أكاديميين أو أطباء أو موظفين، إلا أن نهجهم العنيف لم يتغير عن السابق. واستطاع اليمين المتطرف أن يبقى ناشطاً على الساحة السياسية الألمانية، حيث برز نجم "حزب ألمانيا القومي الديمقراطي" أو ما يعرف اختصاراً باسم "إن بي دي" على رأس الأحزاب اليمينية في ألمانيا محققاً نسبة لا بأس بها في انتخابات المحليات وانضم تحت لوائه العديد من الأحزاب اليمينية الصغيرة.
وقد حاولت الحكومة الألمانية اعتبار هذا الحزب محظوراً، إلا أن الاستخبارات الألمانية ممثلة في "المكتب الاتحادي لحماية الدستور"اعترضت على الفكرة بذريعة أن الاستخبارات اخترقت الحزب على أعلى مستوى، وحظره سيحرم الدولة من مصادر معلومات عن أعضائه وهيئته. ومع ازدياد أعداد اللاجئين، نشأت في سنة 2014 في مدينة دريسدن حركة يمينية متطرفة عرفت باسم "أوروبيون وطنيون مناهضون لأسلمة العالم الغربي" أو ما يعرف اختصاراً باسم حركة "بيجيدا". ومنذ ذلك الحين والحركة تنظم مظاهرات منتظمة أسبوعيًّا في شرق ألمانيا. وقد انضم إلى الحركة الكثيرون من مختلف طوائف الشعب وأصبح موقعها على "الفيس بووك" و"تويتر" يضم آلاف من داخل ألمانيا وخارجها. وباتت أخبار اليمين المتطرف الألماني وأحداث العنف المتصاعد ضد الأجانب تتصدر عناوين الصحف الألمانية وتحظى باهتمام إعلامي كبير.
ميركل في مرمي النيران الصديقة
ومع التنامي المضطرد لظاهرة اليمين المتطرف والانتقادات الواسعة للمستشارة الألمانية من داخل ألمانيا وخارجها لإيجاد حل لأزمة اللاجئين، ازدادت الضغوط على ميركل، خصوصاً بعد تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة في قمة ميونخ للأمن، أن فرنسا غير مستعدة سوى لإيواء 30 ألف لاجئ فقط. هذا
وكانت الأصوات الرافضة لاستقبال اللاجئين قد تعالت من التشيك وسلوفاكيا والمجر، بالإضافة إلى القيود التي باتت تفرضها الدول الاسكندنافية على حرية التنقل داخل دول الشنجن.
وكان رئيس المجلس الأوروبي "دونالد توسك" قد حذر من انهيار أوروبا قائلاً "أوروبا يمكن أن تنهار، وأنهيارها هو هدف الجماعات المناهضة لها والقوميين المتطرفين الذين يحققون الانتصار تلو الآخر في الانتخابات الأوروبية، نحن بحاجة للتضامن لأن أوروبا تتعرض لضغوط لم يسبق لها مثيل". وعلى تداعيات هذه الأحداث يرى المراقبون أن خطاب ميركل السياسي قد تغير، فمن الحديث السابق عن لمِّ شمل أسر اللاجئين إلى ضرورة عودة اللاجئين إلى أوطانهم بعد نهاية الحروب والصراعات. وقد خصَّت ميركل السوريين في حديثها الشهر الماضي حيث قالت "نحتاج لأن نقول للناس أن هذه إقامة مؤقتة،
ونتوقع أنه حين يحل السلام في سوريا مرة أخرى ونلحق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق سيكون بمقدورهم حينها العودة لديارهم".
وتحاول ميركل والائتلاف الحكومي الخروج من أزمة اللاجئين بأقل الخسائر الممكنة والحفاظ على الرصيد الشعبي وتأييد الناخب الألماني في الانتخابات البرلمانية المقرر انعقادها في خريف 2017.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.