يُروى في ناصع تاريخنا الإسلامي المجيد، في صفحاته البيضاء التي ما زالت تُستدعى منذ ذاك الزمن السحيق؛ أن امرأة مسلمة ذهبت تبيع الثياب وتشتري في سوق عمورية في بلاد الروم، فبسطت بضاعتها في السوق، وبينما هي تبيع وتشتري أتى رجل رومي فربط ثوبها بحجيزتها أو برأسها؛ فقامت فتكشّفت عورتها فصاحت بأعلى صوتها في السوق: وامعتصماه. وأخذت تصيح بأعلى صوتها أين الخليفة المعتصم عن هذا الأمر؟ أيرضى أن تُنتهك حرمتي؟ وأن يُكشف عرضي في السوق؟ أيرضى وهو خليفة للمسلمين أن يُفعل بي هذا؟
فضحك الرومي الذي فعل هذا مستخفاً بها وقال لها: انتظري المعتصم حتى يأتي على حصان أبلق. حيث سمعهم حينئذ أحـد أبناء الإسلام، وطار بالخبر يطوي المسافات حتى بلّغها في بغداد، دار الخلافة للخليفة المعتصم الذي لم يسـتدع -عند سماعه الخبر- وزير إعلامه أو المصدر المسـئول في حكومته لتدبيج بيان أو تصريح صحفي، ولم يملأ الدنيا استنكاراً وضجيجاً وصراخاً وخطباً رنانة، وإنما جهّز جيشاً جرَّاراً لإغاثة هذه المرأة! وكلنا يعرف نهاية هذه القصة التي ردّ فيها المعتصم الاعتبار لهذه المرأة من ذاك (العِلْج) وتوّجها بعد ذلك بفتح عموريّة.
هذا هو تاريخنا وإرثنا الحضاري في باب النجدة والإغاثة والنصرة في العهد الزاهر للمسلمين الذي قال عنه في إحدى المرّات الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ تمهّد لها الطريق يا عمر؟".
كان ذلك قبل أن يدور الزمان وتسير مياه آسنة في الأنهار الرقراقة فتتلقف العيون -مثلاً- مئات الصور والمشاهد القادمة إلينا اليوم من الشام، أرواح تُزهق ودماء تُسفك، القتل هناك بلا حساب. وتتلقى الآذان صرخات الحرائر من الأرامل والثكالى والأيتام، ليس بينهم وبيننا جدر أو مسافات فلا تجد إلاّ رجْع الصدى من قوم أصبحنا كغثاء السيل، بحيث أن طفلة سورية حينما ضاقت بها الأرض وعزّ النصير وفقدت الأمل في ظهور شيء من نخوة المعتصم؛ كتبت وصية تدمي القلوب وتبكي العيون، قالت فيها: "هذه وصيتي تذكريني يا أمي دائماً، وأنتِ يا أختي قولي لرفاقي إنها ماتت وهي جائعة، وأنت يا أخي لا تحزن وتذكّرني وأنا وأنت جائعان، يا ملك الموت هيا اقبض روحي لكي آكل في الجنة وأنا جائعة".
وبينما شلال الدم مستمر، والضحايا يتساقطون بالآلاف، والجوع والبرد يختطفون العشرات، واللاجئون في البحار والبراري بمئات الآلاف، والدمار والأشلاء يملأون الأفق، ونزيف الاعتداء على حق الحياة لايتوقف؛ بينما الأمر كذلك ينشغل قادة العالم وساسته -بكل برود وعدم إحساس- في الإجابة على جدليّة سؤال: هل يرحل بشّار أم يبقى؟!