حلّقت الطّائرة فوق أراض منبسطة تتماوج ألوانها بين درجات الأخضر الغامق جداً إلى الفاتح فالأفتح، بعدها ظهر البحر ذو اللّون الأزرق الصّافي والداكن كزيت الزيتون. بدأت الطّائرة بالهبوط وبدا لي كأنّها ستهبط فوق مياه البحر، فجأة ظهرت الأرض المنبسطة ورأيت رجلاً يلبس قميصاً أزرق قرب مدرّج هبوط الطّائرة، ارتطمت عجلات الطّائرة بعنف على المدرّج ومرّت ثوانٍ قبل أن نتأكّد من هبوط الطائرة بسلام حينها صفّق العديد من الرّكاب الكوبيين. شاهدت من نافذة الطائرة العديد من الرّجال بقمصان زرقاء فعرفت أنّهم أمن المطار المدنيّ، واقتربت الطّائرة من مبنى صغير جداً مكوّن من طابق واحد مكتوب عليه مطار سينفيجوس الذي ذكّرني بمطار ماركا في الأردن.
جرّ رجلان سلّماً حديدياً متهالكاً لم أر مثله منذ الطفولة. تقدّمت سيّدة من السلّم تلبس حذاءً ذا كعب عال جداً وتنورة تكاد لاتستر شيئاً مع جواربَ نايلون سوداء مزركشة، رفعت يديها ليمرّر عليها الأمن آلة تفتيش كهربائية من الأمام ومن الخلف ثمّ صعدت السّلّم الى باب الطّائرة وسلّمت للمضيـفة بضعة أوراق ثم نزلت السّلّم ففتّشها الأمن مرّة أخرى وبعدها أذن لنا بالنّزول.
لفحني الجوّ الحارّ الرّطب ونزلت بحذر على السّلّم الحديديّ المتهالك الذي جعلني أشعر وكأنّني جزء من فيلم عربيّ قديم وأنّ مريم فخر الدّين تنتظر في المطار قدوم حبيبها. بعد بضع خطوات على أرض المطار، تلفّتّ حولي فالتقت عيناي مع عينيّ سيّدة أمريكيّة من ضمن المجموعة المسافرة معنا وقالت: لا أصدّق أنّني هنا، لا أصدّق أنّني أخيراً في كوبا، فقلت لها وأنا كذلك أيضاً! بعد بضع خطوات أخرى، دخلنا مبنى المطار المكيّف لنجد أنفسنا في غرفة صغيرة فيها أربع نوافذ للجوازات، كان الجميع يقف على الدّور والرجل ذو المسدس إلى جانبه كان يرشدنا إلى أين نذهب، فجاء دوري وأعطيت مسؤولة الجوازات جواز سفري وورقة أذن لزيارة كوبا. ابتسمت السّيدة وقالت: "كويت، كويت، كويت"، وطرقت مفاتيح الكمبيوتر ومرّرت الجواز على آلة إلكترونيّة ثمّ ختمت عدّة أوراق أمامها ولكنّها لم تختم جواز سفري وناولتني إيّاه وتمنّت لي إقامة سعيدة في كوبا…
كنت أتمّنى لو أنّها قامت بختم جواز سفري لأحتفظ بالختم كذكرى؛ ولكنّهم لا يفعلون هذا مع المسافرين القادمين من أمريكا! ضغطت السّيدة على زر وفتحت لي الباب لأجد أمامي آلة تفتيش شبيهة بالّتي تكون عادة قبل المغادرة وليس بعد الوصول للبلد، ولفت نظري شدّة قصر ملابس السّيّدات والكعوب العالية والجوارب النايلون السّوداء والمزركشة بالورود وكثرة مساحيق التّجميل وكأنّهن يعملن في فندق وليس في مطار حكوميّ.
وصلت حقيبتي متأخّرة، كان جميع أعضاء مجموعتنا قد ركبوا الحافلة السّياحيّة واستغربت أنّ موظف الجمارك لم يسأل عن محتوى الحقيبة كما توقعت حدوثه في بلد اشتراكيّ، لكن يبدو أنّ التّفتيش عن الحاجيات لم يكن مهمّاً مثل المخدّرات حيث كان هناك رجل يرتدي ملابس لاتوحي بأنه شرطيّ ويبدو وكأنّه يعمل في المطار يدور بكلب بين الحقائب.
غادرت الحافلة المطار الصّغير جداً بعد أن انضمّت مرشدة سياحية كوبيّة إلى مجموعتنا لون بشرتها داكن جداً كالأفارقة وتتكلّم الإنجليزيّة بطلاقة. بدأت تستعرض المدينة اسمها وتاريخها وكان جميع الرّكاب مبهورين بمشاهدة البيوت القديمة والنّاس الذين ينتقلون من مكان إلى آخر مشياً على الأقدام والسّيارات الأوروبيّة والأمريكيّة الكلاسيكيّة والقديمة وعربات الخيل المتوسطة الّتي تتسع لعشرة ركّاب.
وسرعان ما شاهدنا أشجار موز وحشيش أخضر في كلّ مكان وشمس ساطعة وسماء زرقاء ومقبرة تبدو وكأنّها من أيّام الرّومان، كلّ ذلك جعلنا نشعر بأنّنا عبرنا إلى قارّة أخرى في أقلّ من خمس دقائق فقط منذ تركنا المطار.
ذكرت المرشدة واسمها ماجاليتا أن مدينة سينفويجو كانت مركز صناعة السّكر وكانت تلقّب باسم لؤلؤة كوبا وأنّ فرنسيّاً هو من بدأ إعمار هذه البلد في القرن الثامن عشر. وفجأة ضغط السّائق على الفرامل بسرعة وتوقّف الحافلة السياحية؛ يبدو أنّ عربة يجرّها حصان كانت تسير أمامنا وسقط الحصان خلف العربة على الأرض لكنّه تمالك نفسه وعاد ووقف، كان واضحاً من نحوله الشديد وشكله البائس أنّه يفتقر إلى الطّعام وقالت مارلين – وهي مربيّة خيول ومن نفس بلدتي في فلوريدا- "إنّ جميع الأحصنة التي رأيناها حتّى الآن تعاني من سوء التّغذية"، ولم نكن عرفنا السّبب بعد .
ثم بدأت الحافلة بالتّحرك، على ناصية الطّريق لفت انتباه جميع الرّكاب لوحة إعلان سوداء ضخمة وعليها كلمة مكتوبة بأحرف كبيرة باللون البنّي وأعتقد أنّها تقول (هيرو) ولم تكن هناك صورة أو رسم. كانت مجرّد حروف كبيرة لهذه الكلمة، لاحظت ماجاليتا أنّنا ننظر للّوحة فقالت لنا: "سترون الكثير من اللّوحات الإعلانيّة في جميع أنحاء كوبا وهي عبارة عن أقوال مشهورة لكاسترو وغيره من قياديي الثّورة". ذكّرني هذا بسوريا ولبنان عندما زرتهما في التّسعينيات وصدمت عندما رأيت أقوالاً مأثورة لحافظ الأسد على لوحات إعلانيّة وأخرى مكتوبة على ورق قماش تملأ عرض الشّارع وكانت من أغرب الأشياء التي شاهدتها في لبنان ذلك الصّيف.
مررنا قبل وصولنا للفندق بعدّة فلل جميلة للغاية تبدو جميعها مهجورة وعرفنا فيما بعد أنّ هذه بيوت الأغنياء الذين كانوا يعيشون في كوبا قبل الثّورة. كنّا نرى طرف البحر بلونه القرمزيّ السّاحر من الفراغات بين الفلل وسرعان ما اتّجه الباص إلى اليمين وشاهدنا مبنى يبدو وكأنّه مستشفى ذو ست طوابق ويطل على البحر ولكنّه كان فندقنا، كان محاطاً بالعديد من الورود المزهرة بألوان مختلفة فخفّفت الورود من رتابة شكل الفندق. وما إن عبرنا البهو حتى استقبلتنا فرقة موسيقيّة كوبيّة تعزف موسيقاهم المبهجة.
لم تكن غرفنا جاهزة فأخذونا لمطعم الفندق من أجل تناول وجبة الغداء الذي كان خياراً ما بين السّمك أو اللّحم أو الدّجاج واخترت أنا طبق اللّحمة. سرعان ما أحضر النادل طبقاً صغيراً من السّلطة به شرائح طماطم وخيار مقطّعة بصورة دائرية رقيقة السّمك ومبشور فوقها كمية من الملفوف وأحضروا لنا خلاً وزيتاً لإضافته إلى السلطة، ولعلّها كانت من أطيب السّلطات التي أكلتها منذ فترة طويلة لطعمها الطبيعيّ الطازج حيث أنّ ما يباع في محلاتنا في أمريكا من طماطم وخيار بالرغم من منظرها الجميل الذي يشبه البلاستيك فهي لا طعم لها لأنّها تقطف مبكّراً جداً وتمرّر على غاز كي تكتسب اللّون الجميل.
وجاء طبق اللّحمة رقيقة السّماكة وكأنّها ورقة سيجارة وكانت مطاطيّة بعض الشّيء عسرة المضغ ولكنّ طعمها كان جيداً، وجاء معها قليل من الأرز الأبيض والملفوف المقطّع إلى شرائح وصلصة فوق اللّحمة أعتقد أنّها كانت بصل حلو مقطّع ومطبوخ مع قطع صغيرة من الفلفل الأحمر الحلو.
ربما تستغرب كقارئ لماذا أفصّل كثيراً في وصف الأكل ولكنّك ستجد أنّ لهذا علاقة كبيرة بالوضع السّياسيّ الحاليّ لكوبا وما تواجهه من مشاكل بسبب الحصار الاقتصاديّ الأمريكيّ وآثار انهيار الاتّحاد السّوفيتيّ على اقتصاد كوبا. ويسمّي الكوبيون فترة التّسعينيّات التي عانوا فيها من قلة المساعدات المالية التي كانت تأتيهم من الدول الاشتراكية بالفترة المميّزة! قالت ماجاليتا: "إنّ أيّ مواطن في أيّ دولة أخرى يستخدم كلمة مميّزة ليصف شيئاً جميلاً أو مناسبة سعيدة، لكن بالنسبة لنا هذه الكلمة تصف أصعب فترة مررنا بها منذ قيام الثورة؛ لأنّ الاتّحاد السّوفيتيّ أوقف شحنات الوقود لكوبا فأصبحنا نعاني من انقطاع الكهرباء وبدأنا نسير على الأقدام أو نستخدم المواصلات العامة فقط.
استلمنا مفاتيح غرفنا بعد انتهاء الغداء وكان مفتاحي عبارة عن كرت أبيض لا توجد عليه صورة الفندق أو اسمه بينما كرت صديقتي سوشيلا مكتوب عليه اسم فندق آخر غير موجود في كلّ جزيرة كوبا وكرت مفتاح صديقة أخرى عليه اسم فندق أوروبيّ، وعرفنا أنّ من ضمن تأثير الحصار الاقتصاديّ على كوبا هو عدم توفر المفاتيح الإلكترونيّة ولذا يستخدم فندقنا أيّ كرت يمكن الحصول عليه حتى لو كان عليه اسم فندق أمريكيّ كهليتون مثلاً.
كانت غرفتي في الطّابق السّادس في ممرّ مفتوح على البحر والمنظر كان خلاباً وخاصّة مع وجود فيلا بديعة على الطّراز الأندلسيّ قرب الفندق مباشرة وأراها كلما غادرت الغرفة. ما إن دخلت غرفتي حتى خيـّل لي أنـّني عبرت إلى عهد الخمسينيات لأنّ كلّ شيء فيها من الطّراز القديم ولكن في حالة جيدة جداً. فالسّرير بالكاد يرتفع عن الأرض والطّاولة الجانبيّة رفيعة الأرجل وكذلك طاولة المرآة والتي شاهدت مثلها في جميع الأفلام القديمة غير الملوّنة، لم يكن هناك سجاد على الأرض أو لوحات أو أيّ شيء يوحي بأنـّنا في القرن الحادي والعشرين سوى تلفزيون صغير الحجم ويعمل بجهاز التّحكّم عن بعد (الريموت كنترول)
قمت بهذه الرحلة قبل ان تعود العلاقات الدبلوماسية بين البلدين باذن خاص تمنحه الحكومة الامريكية لهيئات تعليمية
يتبع
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.