هي.. سويقة؟!

التاريخ هو أحداث مرّت بالأمس، في حين أن ما يحدث في الحاضر سيكون تاريخاً في المستقبل، فمن يهن تاريخه اليوم سيهان في تاريخه في المستقبل؛ وفي النهاية المسألة لم تتحول لـ"سويقة" بعد، أو هكذا نتمنى على الأقل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/17 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/17 الساعة 03:59 بتوقيت غرينتش

تبدأ أحداث هذه المأساة – الملهاة في دولة لن أسمّها في البداية، تاركاً لذكاء القارئ مساحة للتخمين، وذلك قبل أن أقوم بتسمية مسرح المأساة الملهاة، وبعض من أبطالها، فإلى التسلسل الزمني للعمل:

الفصل الأول: بدأت المأساة في عام 1998 عندما قرر صاحب عقار في قلب عاصمة تلك الدولة بطرد مركز علمي بحثي عريق تأسس في عام 1945 بمرسوم ملكي. صاحب العقار – وهو رجل الأعمال الكبير الذي يشتهر بتشييده العديد من المنتجعات الفخمة في طول تلك البلاد وعرضها – أسس طرده للمركز العلمي وبقية السكان على زعم أن العقار سيتم هدمه.

وبالرغم من أن المبنى مازال قائماً كالوتد – منذ ألقيت مئات الملفات التي تضم آلاف الوثائق التاريخية لتلك الدولة في ذلك الشارع بقلب عاصمتها – فإننا لا يمكن أن نلوم رجل الأعمال؛ فمن حكم فيما ملك، ما ظلم، حتى ولو كان بإهانته التاريخ!

الفصل الثاني: يرفع الستار لكي يفاجأ المتفرجون بالسلطات ولم تتأثر بتاريخ دولتها الملقى على قارعة الطريق في قلب العاصمة، بل إنها تركت ثلة من أفضل وأجل علمائها يسارعون بنقل آلاف من الوثائق التاريخية الأصلية، يحملونها على أكتافهم إلى منازلهم، لحين أن يجدوا ملاذاً يحفظون فيه تاريخ بلادهم.

الفصل الثالث: حاكم دولة أخرى – تلقى تعليمه في تلك الدولة التي نسيت تاريخها – وبمجرد سماعه تلك المأساة، قرر مشكوراً تخصيص عشرات الملايين لإقامة بناء يضم تاريخ تلك الدولة في أحد الأحياء الجديدة بهذه العاصمة؛ فجاء بناؤه صرحاً فخماً يليق بتاريخ تلك الدولة، والذي تم افتتاحه رسمياً في بداية الألفية.

الفصل الرابع: بمجرد افتتاح المقر الفخم الجديد للمركز العلمي، قررت سلطات هذه الدولة نقل سوق الخضراوات والفاكهة بهذا الحي لكي يحيط بالمقر إحاطة السوار بالمعصم. السوق لم يؤد إلى تشويه وجه الصرح الجميل فقط، وإنما يهدده بالدمار حرقاً، بما فيه من ملايين الوثائق التاريخية التي لا تقدر بثمن، وذلك بسبب لجوء الباعة في السوق إلى حرق مخلفات بضائعهم بجوار الحوائط الخارجية للمركز. أما الصدامات التي تحدث يومياً بين الباعة، والتي تتطور في كثير من الأحيان إلى مواقع حربية تستخدم فيها الأسلحة البيضاء، فإنها تهدد حياة الباحثين المترددين على المركز من أوروبا وأمريكا.

الفصل الخامس: وهو الذي يدخلنا في شق الملهاة من تلك المأساة، حيث عَنّ لمجلس إدارة هذا المركز أن السلطات مازالت تقدر – بعد كل ما حدث – تاريخ بلادها، فتقدم بالطلب رسمياً إلى محافظ العاصمة بأن يطلق اسم عالم جليل كان يلقّب بشيخ المؤرخين في تلك الدولة قبل أن يرحل عن الدنيا على الشارع الذي يقع به المركز، فما كان من السلطات "الواعية" إلا أن تجاهلت الطلب!

والحقيقة هي أنه للدلالات السيئة لهذه الأحداث، فإنني قررت مشفقاً أن أؤخر الكشف عن مسرحها وأبطالها، وإن كنت أظن أن القارئ بفطنته وخبرته بات يعلم ما أنا بصدد الكشف عنه.

فالمركز العلمي البحثي هو الجمعية التاريخية المصرية، التي أنشئت بمرسوم من الملك فاروق، ومقرها الذي طردت منه كان كائناً على ناصية شارعي نصر الدين والبستان خلف النادي الدبلوماسي بقلب القاهرة، أما الحاكم العربي الكريم فهو الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة الذي حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة القاهرة، في حين أن الصرح الذي بناه للجمعية التاريخية فإنه يقع في المنطقة التاسعة التابعة لحي شرق مدينة نصر، وأما العالم الجليل الذي طلبت الجمعية تسمية الشارع باسمه فهو الدكتور رؤوف عباس (رحمه الله)، في حين أن المحافظة قررت تسمية الشارع "سويقة المنهل".

كتبت هذه الكلمات منذ سنوات، وكانت أمامي صور للعديد من المراسلات الرسمية الموجهة من الجمعية التاريخية على مدار سنوات طويلة، بعضها وجّه إلى محافظي مدينة القاهرة المتعاقبين بخصوص المخاطر التي يتعرض لها المركز وباحثوه بسبب محاصرة السوق لهم، والمطالبة بنقل السوق إلى مكان آخر، بالإضافة إلى مراسلات موجهة لرئيس هيئة نظافة العاصمة، وأخرى لرئيس المجلس الشعبي المحلي. أيضاً، كان أمامي الخطاب الموجه من رئيس مجلس إدارة الجمعية التاريخية إلى محافظ العاصمة يناشده فيه إطلاق اسم رؤوف عباس (رحمه الله) على الشارع الذي تقع فيه الجمعية، وكل هذه المراسلات من دون طائل.

الشاهد، أنه من الصعب منطقياً استيعاب أن الصدفة هي البطل في تلك المأساة الملهاة؛ فالأمر بدا بوضوح وكأن هناك من يتعمد إهانة تاريخ مصر وقيمة العلم والعلماء. ولهؤلاء المتعمدين أياً كانت أسبابهم سواء كان عدم اكتراث، أو قصد الإهانة، فإننا نقول لهم إن التاريخ هو أحداث مرّت بالأمس، في حين أن ما يحدث في الحاضر سيكون تاريخاً في المستقبل، فمن يهن تاريخه اليوم سيهان في تاريخه في المستقبل؛ وفي النهاية المسألة لم تتحول لـ"سويقة" بعد، أو هكذا نتمنى على الأقل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد