كانت تركيا، قبل اندلاع الثورات العربية، تتَّبع منهجاً عمليًّا مع المنطقة؛ إذ كانت تولي التكامل الاقتصادي أسبقيةً على الدفع نحو فتح السياسة، معتقدةً أنَّ تعميق الروابط الاقتصادية سيكون له حتماً انعكاس سياسي. كان المنطق وراء هذا المنهج هو أنَّ الانفتاح السياسي سيكون مسألة وقت بمجرد أن تتطوَّر الدول اقتصاديًّا وليس مسألة احتمالية. وعندما اكتسحت انتفاضات الشعوب شوارع العالم العربي، واجهت تركيا تحدياً غير متوقَّع، إذ بدأ الأساس السياسي لمنهج تركيا القائم على التكامل الاقتصادي في التهاوي.
ثم أعادت تركيا ضبط سياستها سريعاً عبر الوقوف في صف تلك الموجات، وهو ما رأته ''المسار الطبيعي للتاريخ''، بحسب كلام أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية آنذاك، فشعرت أنَّه من المُقدَّر لهذا المسار إعادة تشكيل مستقبل المجتمعات العربية منفردة، وكذلك المنطقة بأكملها. كان رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي آنذاك، أول رجل دولة يطالب المستبد المصري الشائخ حسني مبارك بالتنحي استجابةً للمظاهرات الضخمة، متِّبعاً بذلك هذه القراءة للانتفاضات.
كان المزاج العام في تركيا متفائلاً، واعتبرت النخبة السياسية تحول الأحداث عملية لا رجعة فيها ستُحدِّد مستقبل المنطقة، فتركيا باختصار قد دعمت هذه الثورات بشدة.
اعتبارات الهوية التركية
زعمت الانتقادات أنَّ هذه السياسة كانت أيديولوجية ومدفوعة باعتبارات الهوية التركية في ذلك الوقت، ولكن رفض صُنَّاع السياسات في أنقرة هذه الانتقادات. ليس إدراك الدول لكلٍّ من هوياتها ومصالحها متعارضاً في الحقيقة، بل على العكس، كانت الدول على مر التاريخ ترى غالباً هوياتها ومصالحها متحاذيَيْنِ للغاية.
وهكذا كانت النخبة الحاكمة مؤمنة بشدة بسلامة منهجها، اعتبرت تركيا نفسها منتفعةً من عملية التغيير هذه، بوصفها الداعم الرئيسي للناس الذين خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالتغيير، لأنَّه كان يُظَن في ذلك الوقت أنَّ الناس الذين دعمتهم تركيا سيصلون إلى السلطة في بلادهم. يمكن رؤية سبب تفسير تركيا للانتفاضات في تاريخها السياسي الخاص، فهذه الأحداث لم تكُن لتركيا مجرد ظاهرة سياسية، وإنَّما كانت أيضًا مسألة اجتماعية، فكانت الثورات في العالم العربي لتركيا مسألة سياسية داخلية بقدر ما هي أمر سياسي خارجي.
أصبح موقف الحكومة من الربيع العربي علامة سياسية مُحدِّدة، فقد دعم الإسلاميون والقطاعات المحافظة من المجتمع الثورات بثبات، إذ رأوها عملية تاريخية طبيعية لا رجعة فيها، كان للقسم العلماني من المجتمع تحفُّظات على هذه الأحداث. زادت الثورات من حدة القناعات الأيديولوجية للأقسام الإسلامية/المحافظة وقوتها، وأعادت تشكيل ميولهم السياسية، وهي نتيجة طبيعية.
أعاد تصوُّر أنَّ (الحركات الإسلامية عبر المنطقة تقود الطريق نحو التغيير) إشعال المشاعر الإسلامية وسط القطاعات المحافظة في المجتمع التركي كما قلتُ سابقاً، مؤدِّياً إلى نوعٍ من البحث عن الذات. نُظِر إلى قضايا الديمقراطية والإسلام السياسي بوصفهما متزامنين، وهو ما عُدَّ متماشياً مع روح العصر. كما أنَّ المحافظين اعتقدوا أنَّ الانجذاب للإسلام بدلاً من العلمانية أو القومية أو مزيج بينهما سيُصبح النقطة المرجعية الجديدة والمطلوبة ومصدر الشرعية للحركات السياسية التي تستعد للوصول إلى السلطة على مستوى المنطقة. شجَّعت مثل هذه القراءة للأحداث المحافظين أن يصبحوا أكثر ارتياحاً للترويج لهوياتهم الإسلامية علناً.
بعث المخاوف القديمة
ولكن الطبيعة الممتدة للصراع السوري قلَّلت من هذا التفاؤل، والانقلاب المصري حطَّمه تقريباً، يستحوذ الآن على تركيا، التي تواجهها تحديات عملية التغيير الفوضوية والحرب الأهلية في سوريا، بعض مخاوفها القديمة. فهي تسعى الآن إلى معالجة نتائج الانهيار الإقليمي، سواء كانت ملايين اللاجئين، أو فيض الراديكالية المتمثِّل في موجات التفجيرات الأخيرة في تركيا، أو التحدِّي الكردي المتزايد الذي يشكِّله العمل المسلح لحزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى التوسُّع المحلي للقوات المسلحة للحزب الوحدوي الديمقراطي في شمال سوريا على طول الحدود التركية.
مع هذه الاعتبارات الجديدة، تحوَّلت الرؤية السابقة التي تشمل المنطقة بأكملها إلى قراءة أكثر انطوائية لتبعات الربيع العربي، فترى تركيا الربيع العربي من خلال عدسة تحدياتها السياسية الداخلية على نحو مطرد. أكَّدت النقاشات الداخلية حول محادثات السلام السورية جنيف 3 هذه النقطة، فبذلت تركيا معظم طاقتها في الفترة السابقة على مؤتمر جنيف 3 في محاولة إقصاء الحزب الوحدوي الديمقراطي -وهو فرعٌ لحزب العمال الكردستاني- من المحادثات، وهو ما نجحت فيه في الوقت الحالي.
كانت التطوُّرات في سوريا هي العوامل الأساسية التي أحادت عملية السلام التركية الكردية عن طريقها. تخاطر تركيا، مدفوعةً بالخوف، بعدم رؤية الصورة الكبيرة في المنطقة، كُتِب الكثير بالفعل عن فشل الثورات العربية في وعودها غير المُحقَّقة، ولا حاجة إلى المزيد من الحديث عمَّا لم تُحقِّقه الثورات العربية، من المناسب الحديث عمَّا حقَّقته بدلاً من ذلك.
نفسية سياسية جديدة
قدَّمت الأحداث في العالم العربي نفسيةً سياسية جديدة، لا تقبل هذه النفسية الجديدة أطروحة الاستقرار الاستبدادي، بغض النظر عن آلام التحوُّلات ومرونة الأنظمة الاستبدادية ووحشيتها، وتُمثِّل مصر وسوريا مثالين واضحين. تحدث المعركة الكبرى في المنطقة على إعادة تشكيل هذه النفسية السياسية الجديدة، فالدول الإقليمية والجماعات الراديكالية والهياكل الاستبدادية البائدة تسعى جميعاً لصياغة هذه النفسية السياسية بصورتهم الخاصة.
ليست تركيا مستعدة جيداً لإعادة تشكيل هذه النفسية السياسية للأسف، فالمشهد السياسي الداخلي المرتبك ينهك معظم طاقتها، ومع ذلك ليس هناك عذراً يجعل تركيا تقلِّل حجم انخراطها في الثورات العربية وتبعاتها، لا توجد جزيرة هادئة وسط بحر من الاضطرابات. ومع انهيار المنطقة، تركيا بحاجة إلى الانخراط تماماً في معركة إعادة تشكيل النفسية السياسية الجديدة، لأنَّ هذه النفسية الجديدة هي ما سيعيد تحديد مستقبل المنطقة.
هذه التدوينة مترجمة عن اللغة الإنجليزية ونشرت على موقع Aljazeera للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.