أعرف أنك لستَ من هذا الشرق الأوسط المعقد، وأنك لا تستوعب تعقيداته التاريخية الضائعة بين الطائفية والعرقية وأشياء أخرى. وأعرف أنه من الصعب عليك وأنت ابن القارة العجوز أن تغور في أعمال العقل العربي.. وما أعرفه أيضاً أنك أمام تحدٍ شخصي وسياسي لفك شيفرة "أم الأزمات" في المنطقة وهي الأزمة السورية التي وصلت شظاياها إلى أوروبا وتناثرت في كل دول العالم.
أعلم أنك مبعوث أممي، يبحث عن التوافق وليس عن العدل، ذلك أن مهمات الأمم المتحدة تنشغل في إنهاء الأزمات لا إقامة العدل الضائع في هذا المبنى الرهيب.
كثيرا ما أشفق على حال المبعوث الأممي للأزمة السورية ستيفان ديميستورا، ذلك الدبلوماسي الناعم والنخبوي الذي تورط في وحل الأزمة السورية العميق. هو قدره "السيئ" كموظف في الأمم المتحدة يضطلع بمهمة الأسطورة اليوناني "سيزيف" الذي كلما أوصل الحجر إلى قمة الجبل عادت وتدحرجت قبل الوصول إلى القمة.. لتنهار جهوده مرة أخرى.. تلك القصة مشابهة لمهمة ديميستورا.
العزيز ديميستورا، لا تحمل على المعارضة السورية التي وصفتك بالعميل لإيران وروسيا، لا تحمل على من ضاعت بلادهم على يدهم، اعذرهم لأن المظلوم لا يسلم أحد من دعواته وسخطه، ولا يعرف الحالة الرمادية " إما معي أو ضدي".. ذلك أنه ليس سهلا على المرء أن تضيع منه بلاده وسط لهيب النيران.
بعد عام ونصف على الملاحة في بحر الأزمة السورية وصلت إلى شواطئ جنيف 3، الذي انهار قبل أن ترسو القوارب.. لكنك أنت الصانع وأنت من هندس اللقاء فابحث عن الحصون الهشة في قلعة التفاوض.
لم يتفاجأ السوريون من فشل المفاوضات بقدر ما تفاجأ من أبطال التفاوض ومعارضة الداخل، خصوصا نساء جنيف 3 -دون ذكر أسمائهم- إن امرأة من مخيم الزعتري أو مخيمات لبنان تستطيع أن تُركع كل المفاوضين.. إن امرأة ركبت أمواج البحر الغادر مع أولادها، ستهز كل الحاضرين.. أو امرأة "خنساء" فقدت أبناءها وزوجها وربما حتى أحفادها في المحرقة السورية.. تلك "الماركات" من النساء هن من يمثلن الألم السوري. وليس نساء أنيقات يرتدين أفضل الثياب وأطواق اللؤلؤ والياقوت في أعناقهن.. ويضعن أحمر الشفاة وكحل العينين.. هن سوريات؛ لكنهن لا يمثلن التراجيديا السورية.
أعلم أن السوريين بارعون في الغش وحلاوة اللسان وفلسفتهم التاريخية، ولكن لا يجب أن تقع في شباكهم البارعة، فحين تختار الوجه الحقيقي للأزمة لن يكون من كل الأطراف إلا الاحترام والجدية على الطاولة.. أما الوفود الطنانة التي لا تملك من الأزمة سوى شاشات التلفزة والعلاقات الدولية لن تصنع سلاماً.. فالسلام يصنعه الشجعان.
مهما صنعت حضرة الدبلوماسي العريق، فلن تفلت من لعنة التاريخ السورية، إن كنت مضطرا للحفاظ على التوازنات الدولية، فأنت لست مضطرا على الإطلاق إلى مجاملة من هم لا شأن لهم سوى التشدق بالسلام الذي أضاعوه بأيديهم.. قليل من الحصافة والجدية في اختيار من يمثلون الأزمة سيقفز بالأزمة من طور التشتت -الذي يريده البعض- إلى طور الوضوح.. تلك خطوة لكنني أعرف أنها ليست كل شيء في خضم الصراع الدولي.
لست في أحسن الأحوال وأنت تعرض في كل فترة أوراقك المتراكمة أمام طاولة مجلس الأمن، وليست في أحسن الأحوال وأنت تجوب العواصم العربية والأوروبية بحثا عن التوافقات الصعبة.. لكنك ستكون في أحسن الأحوال أمام السوريين -على الأقل- وأنت تضع قوائم مختصرة لكل الأطراف تعبر عن كنه الصراع.
أعلم علم اليقين، أن التاريخ كمبعوث أممي يعنيك كثيرا، وأعلم أنك تضع أمام عينيك كابوس الفشل القاسي على شخص مثلك، وبعيدا بعيدا عن أمل النجاح.. فلتكن نظرتك للتاريخ الأولى فالأمل من السوريين "غالبا" مفقود.
من يقرأ مسيرتك العريقة في المجال الدبلوماسي، لا يمكنه إلا أن يحزن عليك كمبعوث مخضرم يتحدث ثمانية لغات منها العربية العامية.. ولتلعلم أن آمال الأمهات اللواتي يلتحفن السماء ويفترشن الأرض معلقة بالساعات التي تمضيها وأنت تقلب أوراق الأزمة.. ومرة أخرى أقول إنك لست من هذا الشرق الأوسط البغيض -وهذا من حسن حظك- لكنه من سوء حظك أيضاً أنك ستمضي وقتاً طويلًا في تفكيك هذا العقل.
لقد أكملت المثلث الأممي بعد مبعوثين عتيدين.. الأول وضع سكة جنيف1، هو الدبلوماسي الأسمر (كوفي عنان)، الذي هرب مبكرا من اللهيب السوري، والثاني يعرف عروق ودماء المنطقة لكنه انتهى بالاعتذار أمام المهمة المستحيلة.. أما أنت فالكل ينتظر نهاية الصراع على يديك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.