المضامين الموجعة التي ارتمت في أحضان مدينة الرَّقَّة السورية، والمفاجآت العليلة والكثيرة، حوّلتها، وللأسف، من مدينة زراعية بامتياز، إلى مدينة تئِن من الألم، وتعيش الفاقة بكل مؤسساتها، وصارت تُعرف حاضراً بــ"ولاية الرّقَّة"، والامتيازات الكثيرة التي لحقت بها وأظهرتها على أنّها أنموذج آخر، ومدلّل، بالنسبة لأخواتها البقية من المدن السورية التي تعيش الحالة ذاتها!
وكانت مجرد غنيمة، استسهلها الغازون من كل حدبٍ وصوب، ومورد رزق غير عادي، لكل من حاولَ التحايلَ على أهلِها، واغتصب منتوجاتهم، ونهب خيراتهم، وأبقاهم جياعاً مهمّشين أذلاّء يلتمسون الحاجة، نتيجة الفقر المدقع الذي أصابهم في الصميم، ما شكّل قناة مفجعة، وميؤوسا منها، في ظل الظروف الحالية التي عايشوها على مدى السنوات الأربع، وما زالوا يعايشونها اليوم، وتسيّدت الكثير من الصور الخرافية، التي أنهكت كاهل أهلها، وحوّلتهم إلى مجرد أناس مسلوبي الإرادة، وهم في الواقع، ليس لهم "لا بالعير ولا بالنفير"، وموردهم الأساس ما تنتجه الأرض التي تعود إليهم ببعض الأمل.
حياتهم هذه انغمست فيها الكثير من المنغصّات، وتجسّد ذلك، وبوضوح، بدخول الأسود والمغاوير، واللصوص، ومن كل أصناف البشر، وأتوا على كل ما يمكن أن يسد رمق أبنائها، الذين، هم بالكاد، باتوا قادرين على تأمين لقمة سائغة تخفّف عنهم وطأة الحاجة الذليلة!
الأفكار تعيد الذاكرة إلى هناك، حيث الرقّة، المدينة التي عشنا فيها أيام الطفولة والصبا، وأمضينا فيها بقية العمر، إلى أن غادرنا أراضيها، وقلوبنا، وعيوننا تحدّق إلى دروبها، وحاراتها، وشوارعها العريضة، طرقاتها الواسعة، وحتى موقف كراج البولمان، أصابه العطب في كل زواياه، وإلى ذاك النهر الفيّاض، الذي يزوره أهل المدينة في قيظها الحار صيفاً..
فالرقّة، وبكل هدوئها، ونبضات قلوب أهلها، وطيبتهم، وعشرتهم، وأمانيهم، وتوادّهم، ظلّوا كما هم، لم تغيّر الحياة بهم شيئاً، على الرغم من الأحداث التي حملت الكثير من الهموم، والأوجاع، والآلام، والفراق.
هذه مدينة الرقّة.
مدينة الخليفة العبّاسي هارون الرشيد.. المدينة التي أنجبت الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، رحمه الله، كما أنجبت المؤرخ والباحث، مصطفى الحسّون، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، والكثير من الأدباء، والوجهاء، وغيرهم ممن حفل بهم تاريخ الرقّة المعاصر.
فالرقّة، لم تستل يوماً خنجراً، ولا سيفاً، ولم يُطلب ابنها إلاّ العيش برغد، وأمان واطمئنان. العيش ببساطة، وفي ظل إمكانات محدودة، وقبل بكل ما فيها، وتحمّل الأوجاع.
فابن الرقّة، ظل دائماً مسالماً، متألقاً، مقداماً، وأكثر ما يميّزه عن بقية أقرانه، شهامته، وأصالته، وبساطته، وكرمه، وانفتاحه على الناس.
إنَّ ابن الرقّة، لم يكن في يوم ما ميّالاً للحقد، أو البغض، ولا للاقتتال، بل كان أكثر ما يَمِيلُ للتسامح، والبعد عن عقدة المظهرية، والبساطة في لباسه، وبصورةٍ خاصة، لجهة ابن الريف الذي يزورها مع الصباح الباكر، جالباً معه، ما تنتجه أرضه الخيّرة، من خضراوات..
والشريحة الأكبر من أهل الريف، أكثر ما يهتمّون بتربية الأغنام، المورد الأساسي لمعيشة أفراد أسرهم، وما تنتجه من مواد أساسية لها طابعها الخاص لدى ابن الرقّة.
فالحليب، واللبن، واللبنة، والجبنة، والسمن، والقريشة، والقشطة، كلّها من منتوجات أغنامه، وهي تُعَد من أبسط مقوّمات الدخل لذلك الريفي الذي يأتي الرقّة، مع إشراقة شمس الصباح، حاملاً معه كل هذه المنتجات ليقدمها لابن المدينة، "المِتْضَاحِي"، وهو يقوم، بدوره، بشراء ما يحلو له من مواردها المتواضعة.
فالرقّة، لها شُهرتها بصناعة الجبن البلدي، والسَّمن العربي، واللَّبن "الخاثر" الذي أكثر ما يَلقى روَاجاً لدى سكان المدينة، لأهميته في حياتهم اليومية، وهو من الوجبات الرئيسية، وأكثر ما يتناول في الإفطار، وفي الظهيرة، ولا تخلو وجبة الغداء من حضوره، ويتناول كسائل، هو ما يُعرف باللبن، ناهيك عن البيض العربي، وحليب الأبقار، وهي الأخرى، صار لها حضورها في ريف المحافظة، والإقبال الشديد على تناوله، بعد أن لاقت تربيتها اهتماماً خاصًّا من قبل الأهالي، أصحاب الخبرة.
وتقوم الرقّة اليوم، إلى الشرق من حلب عاصمة بلاد الشام الاقتصادية على مسافة تبلغ مائة وثمانين كيلومتراً، إلى الشمال الغربي من مدينة دير الزور أكبر مدينة عربية على الفرات.. والتي تبعد عنها بمقدار مائة وأربعين كيلو متراً.
وعند نقطة من هذا الطريق تُدعى (المقص) يتفرّع طريق طوله ستة كيلومترات في اتجاه الشمال الشرقي ليتصل بجسر حديث البناء على الفرات، يؤدي مباشرةً إلى مدينة الرقّة.
وتعتمد الرقّة على نهر الفرات العظيم الذي يقذف في كل نصف دقيقة من الزمن ما يكفي لاستهلاك مدينة كبيرة في كل يوم.. لهذا قامت على ضفتيه زراعة كثيفة، يحتلُ القطن فيها مكان الصدارة، ويتلوه في الإنتاج القمح ـ ذهب المستقبل ـ والخضار بأنواعها.
وللرقّة شهرة عظيمة بزراعة البطيخ الأحمر والأصفر، الذي كان يُصدّر إلى عاصمة العباسيين، إذ لا يزالُ العراقيون يطلقون عليه اسم (الرقّي) نسبةً إلى الرقّة، وهو الذي يُدعى (الحُبْحُب) في الحجاز، و(الجُحّ) في نجد، و(الجَبَس) في حلب، و(الدِبْشِي ) في دير الزور والرقّة، و(الدلّاع) في كل أقطار المغرب العربي، مثلما كانت مشتهرة بزيتونها، وزيتها، وصابونها المعطر.
فالرقّة، وأهلها يجمعهما خطّان متوازيان لايمكن أن يفترق أحدهما عن الآخر، أضف إلى ذلك أسواقها المتواضعة، التي يلتقي فيها الأصدقاء، والمعارف، والأقارب، والتي تشتمل على العديد من اللوازم ومتطلبات الحياة اليومية.
وابن الرقّة، لايمكن له أن يهجرها لأنها صارت جزءاً مهمًّا في حياته، وزيارة هذه الأسواق تظل لها مكانتها الخاصة في قلبه ووجدانه.
فابن الرقة، تحمّل -على مضض- الواقع المتردي الذي يعيشه، نتيجة غياب الخدمات الأساسية، التي يمكن أن تدفع به نحو حياة طالما حلم بها، ما يعني أن أهلها صاروا أسرى الحاجة، بكل ما تعنية الكلمة من معنى، في ظل حكم الدولة الإسلامية، التي همّشت كل شيء في حياة أبنائها، وحطّمت الكثير من الرغبات، وكل ما هو جميل ومفرح في حياتهم، وأحالت معيشتهم، الضنكة، إلى لعنة أدمتهم في الصميم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.