لم يكن خيار الهجرة خارج سوريا خياراً طوعيًّا للشعب السوري، وإنما بدأت أفواج اللاجئين تغادر موطنها بعد أن زاد فتك النظام السوري بالشعب، واستمرت آلة القتل تبطش به ليلاً ونهاراً، دون أن يتقدم المجتمع الدولي لنصرة المظلوم وحمايته، وبعد أن حاول الشعب بكافة طبقاته التعايش والتعامل مع هذا المخاض، ولكن الأوجاع والآلام زادت عن قدرة احتمال البشر، فكانت الهجرة ومعاناة اللجوء.
في قوارب الموت خرجت كل أطياف السوريين، وكل فئاتهم، تدفع ما جمعته وادّخرته طوال سنوات عمرها.. خرجت في قوارب مهترئة لا تدري إلى أين ستصل بها.. خرجت بعد أن لم يعد خلفها ما يستحق الحياة، فإن هي وصلت إلى أرض الميعاد فهي إذن حياة جديدة، وإن لم تصل فلا أسف على ما فات..
في رحلة الهجرة كثير من الآلام والمعاناة، وفي طريق العبور نحو الضفة الأبعد كثير من قصص الرعب والخوف، أطفال ونساء وشباب وشيوخ في رحلة تجوب عباب البحار والمحيطات نحو مجهول منتظر، زيَّنته حكايات الناس والسابقين وأرغمت الظروف على التوجه إليه.
في الحقيقة لا يوجد نِسَب وإحصاءات توضح حجم تمثيل الطبقات الاجتماعية السورية المختلفة في مسار الهجرة إلى الغرب، ولكن في زيارة واحدة إلى إحدى المدن الساحلية على بحر إيجة أو البحر المتوسط في تركيا، كإزمير أو بودروم، حيث يتجمع المهاجرون في آخر نقطة قبل سلوك طريق البحر، هناك تستطيع مشاهدة فسيفساء الشعب السوري، من كافة الأطياف والطبقات والطوائف، مختلطين مع غيرهم من بقية الهاربين من الأفارقة والأفغان والعرب وغيرهم!
ومع مرور الوقت بتنا نسمع قصصاً كثيرة عن طبقة أخرى سلكت طريق الهجرة بحثاً عن رغيد العيش وأفضله.. سوريون وعرب تركوا أعمالهم ووظائفهم في الخليج، وخرجوا ينشدون بلداً جميلاً وجنسية وجواز سفر أفضل، وقد أخبرني أحد الأصدقاء أن إحدى العائلات التي كانت تقطن دبي دفعت ما يزيد عن 70 ألف دولار لتأمين خروج العائلة إلى أوروبا وحصولهم على اللجوء والإقامة هناك.
ومع هذه القصص وغيرها بات يتأكد لي أن أصحاب الحاجة الماسة، والذين لا يملكون آلاف الدولارات المطلوبة للهروب، لا يستطيعون الحصول على الهجرة وحق العيش في بلد يحترمهم ويساعدهم على تأمين رزقهم وتعليم أولادهم.
المهربون وتجار البشر هم أكثر المستفيدين من هذه الهجرات، وقد قدرت بعض الأرقام حجم الأموال التي تلقاها هؤلاء بما يزيد عن 7 مليارات دولار، أي ما يعادل ميزانية دولة كاملة من دول العالم الثالث! ولو سخرت هذه الأموال في مشاريع عمل في بلدان اللجوء المحيطة بسوريا كتركيا ولبنان والأردن، لوفرت آلاف فرص العمل للعاطلين عن العمل، ولكفت الشباب والعائلات مشقة قطع آلالاف الأميال تحت سيف الخوف والرعب.
وفي ظل هذه الأزمة يتبادر إلى ذهني سؤالان
الأول: ما دمنا نعيش أمام أزمة حقيقية بكل معانيها، وسيل اللاجئين ما زال متدفقاً وغزيراً، فلِمَ لا تقوم الدول المتقدمة بتنظيم الهجرة والتعامل معها كحالة منظمة وليس كحالة طارئة رغم مرور سنوات عليها؟ ولماذا تسمح الدول الكبرى بإنعاش سوق التهريب وزيادة عدد المهربين وتجار البشر، والذين لا يهمهم سوى ما في جيوب هؤلاء الهاربين من ديارهم، وكلنا نعلم أنها أصبحت تجارة رائجة تدر أرباحاً لا يمكن جنيها في غيرها من أنواع التجارة؟
أعلم أنه لا يمكننا التعامل بشكل عاطفي تام مع الأزمة، حيث إن المستغلين لها والصاعدين على موجها من غير ذوي الحاجة كثيرون جداً، ولكن التعامل السياسي البحت أيضاً لم ينتج أي حل طوال السنوات الماضية.
والثاني: هو لماذا لا نقطع رأس الأفعى ونوقف كل أنواع النزيف؟ حيث إنني أعتقد جازماً أن الهجرة هي نتيجة وليست سببًا، حيث إنها نتجت من الظلم الواقع على أرض سوريا، ويجب علينا قطعاً التعامل بجدية مع السبب لبتره والتخلص منه، وبرأيي أن المجتمع الدولي بجميع أطيافه يتقنون التفريق بشكل جيد بين النتيجة والسبب، ولكنهم يخلطون الأمور أحياناً لكسب المزيد من الوقت لصالح قضاياهم وأهدافهم.
وبعد أن اكتوى السوريون بنار الظلم وفقدوا -بشكل مادي ومعنوي- أكثر من نصف الشعب ما بين شهيد ومفقود ومعتقل ولاجئ، يكون المجتمع الدولي وعلى رأسه الغرب أمام تحدٍ حقيقي لمساعدة الشعب السوري، والقضاء على الديكتاتورية الجاثمة فوق صدره، لإيقاف نزيف الموت والقتل واللجوء أيضاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.