الغربة.. وطن لا يدفئ!

أشعر بالخوف على الذاكرة السورية من النسيان.. على الوطن السوري من الاضمحلال داخل قلوبنا.. على شعورنا المزيف بأننا استطعنا بناء وطن بديل.. على نجاحاتنا التي ربما ستجعلنا نشعر بأن بقاءنا في أوروبا خير لنا من العودة يومًا إلى وطننا

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/26 الساعة 00:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/26 الساعة 00:04 بتوقيت غرينتش

لا بد لك أن تسمع اللهجة السورية المحببة إلى القلب تغزو الكرة الأرضية من المحيط إلى المحيط.. ويتردد صداها في كل شوارع ودهاليز دول العالم من ميدان تقسيم في تركيا إلى جزيرة سانتوريني اليونانية، ومن مدينة سكوبية المقدونية إلى بلغراد الصربية، ومن بودابست المجرية إلى فيينا النمساوية حتى تصل إلى ألمانيا الحضن الدافئ للسوريين.. ولا تتوقف بوصلة اللهجة السورية عند الحدود الألمانية الشقيقة فحسب، بل تكمل رحلتها لتقطع الحدود السويدية والدنماريكة والبلجيكية مثقلة بالتعب والعطش والجوع وبعض من أشلاء ذكريات استشهدت هناك في أرض الوطن..

هذا الانتشار البشري المرعب للسوريين في كل أصقاع العالم لم يأتِ نتيجة حب السوريين للسفر والسياحة واكتشاف الحضارات البشرية وتلاقح الثقافات وتبادل المعارف وما شابه، بل جاء نتيجة حرب طاحنة لم يعرف التاريخ المعاصر مثيلاً لها، حرب دنيئة تواطأ فيها القريب قبل البعيد والصديق قبل العدو، حرب فتَّت الماضي السوري العريق ونهشت 5 سنوات من حاضره الجريح الذي يقبع اليوم في غرفة العناية المشددة بين حي وميت، وتركت مستقبلاً أسود اللون لا يرى منه إلا الدمار والشتات والموت والتشرد والمصير المجهول.

فما كان من الإنسان السوري إلا أن حمل أحزانه وأحلامه وصوراً قديمة لذكريات العائلة والأطفال والأصدقاء وبعضاً من أكسجين الوطن المطعّم برائحة البارود والموت في حقيبة على ظهره وقصد أرض الله الواسعة بحثاً عن حياة..

والسوري يا سادة كالزبدية الصيني.. إن أردته مهندساً وجدته.. وإن أردته طبيباً وجدته.. وإن أردته مدرساً وجدته.. وإن أردته موسيقيًّا وجدته.. وإن أردته كهربائيًّا وجدته.. وإن أردته بائعًا وجدته.. وإن أردته رسامًا وجدته.. وإن أردته محاسبًا وجدته.. وإن أردته محمصليًّا وجدته.. وإن أردته حلوانيًّا وجدته.. وإن أردته شاعرًا وجدته.. وإن أردته بائع خضار وجدته.. وإن نقرته من أي مكان شئت ستسمع رنين الجودة والإتقان والإخلاص والصدق يصدح عاليًا كصياح الديك عند الصباح.

ومن هنا فالإنسان السوري يمتلك القدرة الفريدة على نحت وصياغة حياة جديدة أينما ذهب، وهذا ما لا يغفل على أحد.. فصدقوني بأن رائحة الفلافل والفول الشامي والشاورما السورية والكنافة والكزبرة والثوم التي لا تخلو طبخة سورية منها ستغزو شوارع أوروبا قريباً..

وبأن المدارس الأوروبية ستشهد تفوق العديد من الطلاب السوريين.. وبأنّ المجال الأدبي والقصصي الأوروبي سيشهد ولادة كوكبة مميزة من الأدباء السوريين.. وبأن الفن الأوروبي سيطعم بالفن السوري العريق والموشحات الحلبية.

حتى أنك ستشعر لوهلة وكأنك في سوريا هناك تتمشى في شوارع الشام وتتسوق من سوق الحميدية وتأكل البوظة الشامية الشهيرة وتشتري الأثاث السوري المشغول بحرفية عالية وتقرأ كتابًا لروائي سوري على أنغام أوتار العود والطرب السوري الأصيل..

ولربما يقول البعض بأنني أبالغ في وصفي للأمور أو أنني أرسم مستقبلاً مضخمًا للسوري هناك في أوروبا أو تأثيره الفاحش على مجريات الحياة الأوروبية.. لكن صدقوني لم أنقل لكم سوى الشيء اليسير مما أراه مستقبلاً لتأثير المواطن السوري على القارة الأوروبية.

ولو أردت أن أنقب لكم أكثر عما في داخلي من شعور راسخ بنجاح الإنسان السوري لاتهمتموني بالتحيز والعنصرية والسورياوية.. وأرجو أن تجدوا لي العذر، فإيماني بالشعب السوري وقدرته على صبغ أي حياة وأي مكان يذهب إليه بالصبغة السورية كإيماني بأن الشمس تشرق كل صباح من الشرق وتغرب كل مساءٍ من الغرب..

ومع كل هذا الإيمان العميق، أشعر بالخوف على الإنسان السوري مما ستحمله له العجوز الأوروبية مستقبلاً.. أشعر بالخوف على الذاكرة السورية من النسيان.. على الوطن السوري من الاضمحلال داخل قلوبنا.. على شعورنا المزيف بأننا استطعنا بناء وطن بديل.. على نجاحاتنا التي ربما ستجعلنا نشعر بأن بقاءنا في أوروبا خير لنا من العودة يومًا إلى وطننا إن قدر لنا العودة.

كل هذه المخاوف هي مخاوف مشروعة لكل إنسان سوري يحلم ببناء سوريا الوطن والأم مهما طال الزمن.. يحلم برسم معالم دولة مدنية معاصرة حديثة لكل السوريين بمختلف معتقداتهم وتحزباتهم وتوجهاتهم واختلافاتهم، دولة تقوم على أساس العدل والمواطنة والحقوق والواجبات، دولة تقدر قيمة المواطن وتحفظ له حقه في العيش كإنسان!

ولا أريد أن يُفهم من كلامي هذا أنني ضد هجرة السوريين التي فُرضت عليهم إلى أوروبا، بل على العكس يجب على الإنسان السوري أن ينخرط في الحياة الأوروبية، وأن يتعلم لغة جديدة وأن ينصهر ضمن بوتقة الحضارة الأوروبية وما فيها من نظام ودقة في العمل واحترام للمواقيت وقيمة الإنسان.
ولو استطاع الإنسان السوري أن يتحول إلى إسفنجة يمتص فيها كل ما هو إيجابي وحضاري وعلمي في أوروبا أو إلى كاميرا يصور فيها كل ما يراه من عمارة وفن ورقي فليفعل.

والأهم من هذا كله أن يبقى حلم الوطن يعيش بداخل كل سوري أينما كان.. ينام معه ويأكل معه ويشرب معه ويضحك معه ويبكي معه وحتى يتنفس معه، حلم العودة لنقل كل ما تعلمه الإنسان السوري من لغات وثقافات وأنماط حياة جديدة متحضرة إلى سوريا.. لتفريغ محتويات الإسفنجة وتحويلها إلى عمران ومدن حديثة ومسارح ودور سينما ومشاريع وأنظمة تشمل جميع مناحي الحياة.. لإعادة إعمار سوريا بكل ما تحمله الكلمة من معنى على الصعيد المعماري والفكري والإنساني والنفسي، وعندها فقط ستكون الرحلة الأوروبية نعمة..

لذا دعونا جميعًا نغرس ذاك الحلم السوري النقي في عقولنا وقلوبنا وضمائرنا، ولنعش يومنا كما شئنا وأينما شئنا ولنبتسم لمستقبل ستشرق فيه الشمس رغماً عن الليل المظلم.. فصدقوني يا أصدقاء الغربة بأن "الوطن العيرة ما بدفي.. وإن دفا ما بدوم!".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد